أنتم سبب كل الأمراض.... أنتم سبب تفشي الغياب

الإدارة مايو 05, 2016 مايو 05, 2016
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

أنتم سبب كل الأمراض.... أنتم سبب تفشي الغياب....

أنتم سبب كل الأمراض.... أنتم سبب تفشي الغياب....

حسناء أحمد
 تافهون لا تحسنون العد و الحساب...و لا تتقنون البحث عن الأسباب.... 
فضائي الضيق كان سقفا أزرق اللون مربع الشكل...اجتهدت يوما في تثبيته بمسامير صغيرة لمنع تساقط التراب على فراشي و أرضية غرفتي...أصوات الزواحف داخله تزعجني و هي تعبره جيئة و ذهابا بحثا عن مخرج لها و كأنها تتطفل على عالمي ..و خشخشات أرجل حشرات ... قد تكون خنفساء و قد تكون صرصورا و أحيانا عقربا أسودا أو أم الأربع و الأربعين...أبعد نفسي قدر الإمكان عن تصور سقوطها علي و أنا
عنها غافلة...كم أحب النظر إلى ذلك السقف كأنه سماء خالية من النجوم و السحب أرسم فيه من الأشكال و أكتب فيه من الأسماء أحبها إلى فؤادي...أغرق في ذكرياتي هنا و هناك أبحث عن شيء ينسيني همي و وحدتي و قسوة ظروف العيش...لكن هذه المرة عجزت عن رسم و تخيل أي شيء جميل...لم أستطع نسيان يوم العيد الماضي الذي قضيته بسبب فيضان الوادي في هذه الغرفة لوحدي...انعدمت وسائل النقل كالعادة و ساءت حال الطريق و تقطعت بي السبل فوجدت نفسي صبيحة العيد وحيدة ..أخرج من غرفتي أبحث عن لوحة تحيي في فرحته لكن بلا فائدة...نسيت تماما لذة المناسبة و انصب اهتمامي على إيجاد ماء للشرب ...تراءى لي سكان القرية يتبادلون التهاني فيما كنت أحج عشرات المرات إلى حجرة الدرس المجاورة حيث يسكن زميلي باحثة عن منفذ إليها من أجل قنينة مــاء...جربت كل المفاتيح و حاولت تحطيم شباك النافذة ...لم أعد أقوى على تحمل العطش يوما آخر ...قطع رعد قوي حبل أفكاري ليوقظني من ذكرى بائسة لا أريد تكرارها...فها هي العطلة قد حلت و غادر زميلي بالأمس على دراجته المتهالكة...و بقيت أمني نفسي بوصول وسيلة نقل...لابد أنني سأقضي هذا العيد بعيدة عنك مرة أخرى أمي...فقد طلبت من بعض التلاميذ مرافقتي و جاءني الرد من أسرهم بالرفض خوفا عليهم من فيضان الوادي و أمطار الموسم...كفكفت دموعي و وقفت بسرعة و صورة أمي تناشدني أن أستجمع قواي لأنعم بتقبيل رأسها صبيحة العيد و سماع دعواتها الطيبة..لن أبقى هنا ...ارتديت معطفي و وضعت حقيبة السفر على ظهري و فتحت الباب لأغادر إلى خلاء مخيف شاسع لوحدي....
رائحـة التراب الزكية المنعشة تستقبلني و أنا أفتح الباب الصغير...تلبد واضح في السماء و رعاة يعودون إلى أحضان بلدتهم على عجل و برق يسطع فجأة...هل يمكن أن أسابق الزمن و أغادر قبل فوات الأوان؟؟
أغلقت الباب ورائي بقفلين لا يمنعان أحدا من الدخول لو شاء و استودعت الله غرفتي و توكلت عليه و خفقان قلبي يفضح مخاوفي...تظاهرت بالخفة و النشاط و اللامبالاة و الشجاعة و أنا أراقب عن كثب نظرات تراقبني من بعيد...نساء يستغربن مغادرتي بلا رفيق مشيا و رجال أراهن أنهم صدقوا شجاعتي المصطنعة...مشيت أراوغ الصخور أمامي و أندس بين الشجيرات و أصعد و أقفز و كأن فرحة العودة إلى المنزل تحملني...اجتزت الوادي الضيق الذي يفصل القرية عن طريق وسائل النقل...و صعدت الهضبة تاركة ورائي نظرات الفضول و الاستغراب...مشيت و مشيت و سرعان ما بدأت أنفاسي تتقطع...أثناء محاولة لإعادة ربط خيوط حذائي الرياضي استرقت النظر ورائي لأجد التلاميذ فوق هضبة عالية يلوحون إلي بأيديهم...فهمت أنهم أحبوا مرافقتي لكن ...تابعت مسيري...أنظر إلى هاتفي في كل مرة أشعر فيها أنني ابتعدت عن كل ما يمت لحياة الإنسان بصلة...مرت ربع ساعة ...نصف ساعة...أسرعت الخطى...ازدادت دقات قلبي ...شعرت بآلام في كتفي بسبب حقيبتي ...رميتها أرضا و هممت أن أستريح لأفـاجأ بأنها بدأت تمطر و بأني وحيدة في خـلاء مخيف...التفت خلفي...لا حركة لا سكان لا منازل...نظرت يمنة و يسرة ..لا شيء سوى ظلال هضاب و جبال مخيفة...و أمامي فضاء خال من الحياة الآدمية...تذكرت قصص الكلاب الضالة التي يحكي عنها البعض و قصص الراعاة و قطاع الطرق...وقفت وحيدة لا أسمع سوى ضربات قلبي و أنفاسي ...رعد... برق ...ثم رجفة في صدري و ريح باردة تلفح وجهي...و بدأت سلسلة المخاوف و التساؤلات تجتاحني...حملت حقيبتي و وضعت سماعتي الهاتف في أذني لأغالب ببعض الترانيم جبني...و تابعت المسير و قد صار بدني يقشعر من شدة البرد و ابتلال ملابسي...شعرت أن تلك الأنغام ستكون سببا في هلاكي ...فماذا لو اقترب أحدهم أو كلب ضال مني دون أن أسمعه فينقض علي؟؟...التفت خلفي مصدقة ما تصورته...أخفيت هاتفي و رددت أدعية و آيات و توسلت إلى خالقي أن ينتهي هذا الكابوس...اشتدت غزارة الأمطار و تثاقلت خطواتي و تجمدت أطرافي و اختلطت عبراتي بقطرات المطر تلاطم وجهي...
شعرت بلزوجة الأوحال تحت حذائي و صرت مهددة بالسقوط في أية لحظة...عجزت عن ضبط توازني كلما انزلقت قدمي..مضت ساعة من الزمن مليئة بمختلف المشاعر و المخاوف و الأفكار و كوابيس اليقظة و ما زال أمامي طريق طويل و نهرين و حقول و دواوير على بعد ساعة و نصف...اتجهت بخطواتي المثقلة بالأتربة إلى مكان مرتفع لأطلع على حالة الوادي الذي سأواجهه بعد لحظات...نظرت فلم أصدق ما رأيته...دققت النظر فإذا بي أقع في ما حاولت بهروبي من تلك الغرفة أن لا أقع فيه...إنه الوادي...لقد سبقني بخطوات ...يا له من منظر عجيب و كأن أفعى ضخمة تلتوي و تزحف بسرعة مذهلة...فوق الهضبة وقفت أنظر إليه يغطي صخرة تلوالأخرى...يقلع كل الشجيرات التي في طريقه...ارتفع صوته مزمجرا كهدير محركات عملاقة في هذا الفضاء الفارغ...تجاوزني و أنا أقف عاجزة عن ملاحقته...تجاوزني ليمحو عن ذاكرتي طريقا كنت أسلكها لأجتازه...تجاوزني حاملا معه صخورا كانت تتوسطه في صف متناسق لا يتطلب إلا قفزات قصيرة...تجاوزني و أنا أقف منهارة لا أعرف أي الطرق أسلك..هل أغامر أم أعود أدراجي ساعة أخرى و أستسلم للأمر و أقضي العيد وحيدة...؟؟ لا مجال لذلك...فهناك واد سحيق آخر اجتزته بسلام سيحول بيني و بين العودة...صمتت كل مشاعري و تساؤلاتي فجأة و كأن رغبتي في الوصول إلى أسرتي تقودني نحو الوادي ...كلما دنوت منه أسمع أصواتا كثيرة...صخور تنجرف..و أنين جذوع تقتلع...و جلود و أثواب موحلة و حمرة و تلاطم مياهه على جلمود صامد...وقفت مشدوهة خائفة أراقبه بلا حركة..." لا مفر من المغامرة "...هكذا فكرت...أخذت حجرا كبيرا و رميته فلم أسمع له صوتا و لم أر له حركة و كأنه قطعة قش ...من أين سأبدأ و كيف سأجتازه؟ هل أنزع حذائي ؟ و ماذا لو سقط و أخذه بعيدا؟ لا...سأقطعه بحذائي فقد ابتل و اتسخ و تمرغ في الأوحال ...علقت حقيبتي على عنقي و تشبثت بها لأحافظ على توازني...قدمت رجلي اليمنى فشعرت أنها ستنجرف ...وضعتها بهدوء داخل المياه الموحلة السريعة ...ثم قدمي اليسرى...خطوة فخطوتان...لم أتوقع أن تصل المياه فوق ركبتي...حاولت بجهد كبير أن أرفعها و قد أوشكت على الوصول إلى المنتصف...لكني شعرت بقوة تتلاعب بها فوضعتها من شدة الخوف و قدمت قدمي الأخرى فهوت بي في بقعة سحيقة و أفلتت مني شهقة و صرخة لم أتخيل أن تخرجا مني ...فقدت توازني و علمت أنني غارقة لا محالة...اصطدم جسدي بقوة المياه و شعرت بمرارتها على شفتي و أنا أتشبت بحقيبتي التي غاب نصفها وسط الأمواج...برودتها سرت في داخلي و اختنقت أنفاسي بعد أن وصلت المياه إلى جوفي...فكرة الموت و الغرق و الفراق و الجحيم و الاختفاء تمزق رأسي و توسل و تشبث بالأمل و برحمة من رب السماء و دموع تنهمر و خوف ...عرفت حينها معنى أن تتيه و تحتار و تيأس...و تفتقد طعم الحياة و تخشى الموت ...ذكريات و ندم و يأس ...كل المشاعر تهزني تتنازع بداخلي...شعرت أن رغبتي في عدم الرحيل جعلت أصابع قدمي تضغط على الرمال و تبحث عن أرض صلبة تحت أقدامي و تقاوم الحجارة و الأغصان لتثبتني أمام هذه القوة الجارفة...لم أقو على رفع رجلي بل تركتها مثبتة أجرها و أتحسس بها طريقي و أركز ببصري على الضفة الأخرى...أريدها أن تكون لي مكانا...أريد و بشدة أن أصل إليها و أعانقها و أرمي بجسدي عليها ...قاومت و قاومت فيما كانت المياه تضغط على صدري كأنها يد قوية تدفعني لأرافقها في رحلتها الشتوية...و قاومت لأصل إلى الضفة...و لم يكن لدي جهد كاف لأواصل إليها المسير...بل سقطت بمجرد استقبالها لي...سقطت ضعيفة غير مبالية بغرقي وسط أوحال حمراء لزجة متخذة من حقيبتي متكأ ...بقيت كذلك غير مصدقة أنني نجوت...اضطررت لأستعين بيدي و ركبتي لأبتعد عن الوادي و أصعد إلى الطريق...أصبحت أبدو كمنحوتة شبيهة بجسم إنسان ملتحف بطبقة سميكة من الأوحال ...تغيرت ألوان ملابسي و ازداد ثقل جسدي...جلست مستسلمة لمنظري العجيب لأنزع جواربي ..أعدت حذائي ذي اللون الغريب...ألقيت نظرة على هاتفي و شعرت بفرحة لأن المياه لم تصل إليه...ليس لأنه من نوع جيد..بل لأنه الوسيلة الوحيدة لأطلب النجدة ...سخرت من نفسي بعد أن تذكرت أنه لا تغطية هنا...و استعذت بالله و شكرته لأنه وحده من أنقذني من الغرق...حملت أغراضي و تابعت المسير و لم تفلح الأمطار الغزيرة في إزالة الأوحال عني بل زادت من اصطكاك أسناني و ارتعاش أوصالي...صوت بداخلي يطمئنني و كأنني تجاوزت المرحلة الخطيرة : " صبرا حسناء ..ساعة أخرى و ستصلين إلى القرية المجاورة ...ساعة واحدة...و نهر آخر في انتظارك ! "
كابوس الغرق رافقني في طريقي.. نهاية مؤلمة لمعلمة في طريق عودتها من مقر عملها...فتاة تلقى حتفها غرقا ...العثور على جثة معلمة جرفتها مياه...أي عنوان ستحمله صحيفة لتصف به نهايتي؟؟ كم من سطر ستكتب عني؟ و كيف سأكون في خاطر قارئ الخبر...؟ الأسباب ستكون غباء المعلمة و مغامرتها...سبب موتها لن يكون إلا حماقتها في مصارعة فيضان واد سحيق...هي سبب رحيلها...لا شيء سيذكر عني لو أنني غرقت...مجرد خبر ...مجرد ذكرى...كمثيلاتي من المعلمات اللواتي نهشت الكلاب الضالة لحومهن...كأمثالي من الزملاء الذين رحلوا غرقا أو غدرا أو في كوارث الطريق...مجرد رقم آخر ينضاف و ينتهي...هكذا تخيلت نهايتي...و رفضت في قرارة نفسي أن أتخيل من تعتبرني فلذة كبدها لو رحلت و تركتها بلا معيل...رفضت و أرفض تخيل آلامها...تجاهلت حرب الأفكار في داخلي و آلة التخيلات و القلق...و رحت أنظر إلى الأفق..و أرفع رأسي إلى السماء فتغسل عني دموعي ...لا أرى سوى سحبا مثقلة و برقا ساطعا و أنا أقطع المسافة...غزارة الأمطار جعلتني أطمئن لأنها ستبعد عني شراسة كلاب ضالة و كبت رعاة و غرباء...تمنيت لو أني أستطيع الجلوس في مكان آمن لأستريح لكنني ابتعدت عن منطقة الصخور الآن و ليس أمامي إلا مسافات الأحراش و الجبال و كثبان ترابية بدت مستسلمة لمياه أمطار أحالت الطريق إلى برك كثيرة...لا مكان للراحة...ربع ساعة مضت...نصف ساعة ...ساعة إلا ربع...خضرة تلوح لي من بعيد...أصبحت على مشارف حقول أول قرية منذ ما يقارب الساعتين من المشي ...حقول خالية من البشر...مشيت بخطى سريعة نحو أول ساقية.أردت أن أنظف ملابسي و أزيل عنها القليل من الحمرة لكن لهفتي أنستني أن مصدر مياه الساقية ما هو إلا نفس الوادي الموحل..و رغم ذلك جلست قربها أضع أصابعي محاولة ضمها لأملأ كفي ماء فلا أستطيع من شدة برودتها...رحلت و في بالي ألف سؤال و سؤال كيف سيراني أهل القرية؟ و كيف سأبدو لهم و...؟ لم يتأخر الجواب ...فبمجرد دخولي إليها سمعت ضحكات و قهقهات و كأن المارة مهرجة مختلطة ألوان ملابسها...سمعت همسا و رأيت شفقة و شعرت بسخرية ...دسست يدي في حقيبتي و أخذت سماعتي الهاتف و أوصدت بهما صماختي أذني بإحكام و تظاهرت باللامبالاة و غيرت مساري كي أختصر الطريق و أفر من همهمات و نظرات آدمية مزعجة فكان مصيري التيه وسط حقول كثيرة متشابكة السبل كثيفة الأشجار موحلة أكثر مما توقعت..فقدت توازني و سقطت و قمت بصعوبة أبحث عن طريق مؤدية إلى مخرج ما...مرت دقائق طويلة كأنها العمر بأكمله قبل أن أجد نفسي أمام نهر آخر...مساحته شاسعة تضم نهرين اثنين..النهر الذي نجوت من رحلته الجارفة بأعجوبة و آخر قادم من وراء جبال منطقة أبعد...يلتقيان يصطدمان يتحدان ...ثم بعد مسافة يفترقان ليجعلا المار منهما مضطرا لقطعهما مرتين...على الضفة الأخرى أناس عاجزون عن المغامرة ينتظرون أن تجود الساكنة بدابة قادرة بقوائمها على تحمل قوة تصادم النهرين...اتجهت إلي الأنظار متسائلة متطفلة مستغربة...صددتها بتجاهل تام و رحت أرواغ النهرين و أختار من الأماكن أوسعها تجنبا للوقوع في فخ الحفر ...ما تزال الأنظار متجهة إلي مشدوهة لكوني لم أرفع ملابسي و لم أنزع حذائي و لم أبال بأي شيء سوى الوصول...تجاوز منسوب المياه ركبتي بكثير و أبطأت من حركتي لأجعلها أقوى...لا أريد أن يرى الجميع ارتباك خطواتي و خوفي الدفين و سقوطي و غرقي و رحيلي...شعرت أن الجميع يراقبني في صمت...أرفع رأسي بين الفينة و الأخرى و أنا أدفع بجسدي إلى الأمام كي لا أشعر بدوار بسبب حركة المياه...و حين تمكنت من الوصول إلى الضفة الثانية تنفست الصعداء و لاحظت عودة الأصوات الآدمية من جديد بعد أن حبسوا أنفاسهم و هم يشاهدون مغامرتي...كم أتقن صنع الشجاعة من خوف و جبن و غضب !!! أقل من نصف ساعة و أصل إلى طريق شبه معبدة حيث سأتمكن أخيرا من أخذ سيارة أجرة ...لكن قبل ذلك سيكون علي تحمل نفس السخرية و الشفقة و الفضول من ساكنة القرية الثانية...تحملت...و زادت فورة غضبي و حنقي و خنقتني عبرات تختفي وراء خصلات شعري المبلل ...لوصلت إلى قارعة الطريق حيث توجد المركزية و مسكن المدير و الحارس ...هناك وجدتهما يتبادلان أطراف الحديث و هما داخل جلبابيهما الدافئين...التفتا ليراياني واقفة في حال يرثى لها من التعب و الجوع و الأوحال و ابتلال ملابسي ومنظر مثير للشفقة و...فكانت طريقة استقبالهما لي أكثر فظاعة من قسوة نهر حاول إغراقي !!
من تحت نظارته الزجاجية نظر إلي من أخمص قدمي إلى شعر رأسي...كأن مخلوقا غريب الشكل و الألوان يقف أمامه...فرفع يده اليمنى و ضرب بها يده اليسرى مطلقا ضحكة تفجرت في أجوائي القاتمة بالمخاوف و الغضب...قهقهة ما زال صوتها يتردد في أذني و أعاد بجسمه إلى الخلف لأشعر أن ضحكه نابع من أعماقه و جاراه الحارس اللعين في ضحكه علي....توسلت إلى دموعي ألا تنهمر فاستجابت...استمر ينظر إلي و يلتفت إلى صاحبه ساخرا متمتما بكلمات تتلوها ضحكات...و انهالت علي عشرات الأسئلة ...هل أبدو مضحكة؟ هل مجيئي من مكان يعلم مدى بعده و وعورة مسالكه في حالة الجو هذه بأمطاره و رعده و برقه يدعو إلى الضحك؟ هل اصطكاك أسناني و تلوث لباسي و احمرار عيني من كثرة البكاء و برودة أطرافي ...هل يدعو كل ذلك للضحك؟؟؟ أخذت حقيبتي و ضربت بها أرضا بكل ما أوتيت من قوة...و الغضب باد على ملامحي..و لم أنبس ببنت شفة...كانت قسمات وجهي كفيلة بإسكاتهما...ليغيرا تصرفهما و يوجه إلي حديثه الذي لم أصدقه يوما...'' ادخلي يا ابنتي ارتاحي و غيري ملابسك فلن تأتي سيارة أجرة بسبب فيضان النهر الآخر " !! نظرت إليه نظرة ملؤها البغض و الحقد و رغبة شديدة في خنقه هو و صاحبه...ابنتك؟؟ حاشا أن تكون أبا و تسخر مني في أحلك لحظاتي...لو كنت مصدقة أمورا لصدقت أن قبر والدي قد اهتز حين لفظت كلمة ''ابنتي'' ...كتمت غضبي لأن كل ذرة من جسدي كانت تستغيث من شدة التعب و لأن استجابة دموعي لتوسلي لن يدوم...رمقتهما بنظرة الحقد تلك و أخذت حقيبتي و تابعت مسيري رافضة دخول سكنه أو إدارته...تجاهلت كلامه و أسرعت الخطى و صدى تصفيقه و قهقهته يرافقني...ثم..تذكرت ...لقد قال أن النهر الآخر قد...كيف؟ لقد نسيت تماما أمر ذلك النهر !! اجتاحتني قشعريرة و لحظة صرختي وسط نهر غاضب تعود إلي...ما العمل الآن؟ هل أكسر شوكة غضبي و عزة نفسي و أعود إلى ...لا..يستحيل..أفضل الموت على جعل من سخر مني في لحظة يأس يرى ضعفي و انهياري...ربع ساعة من الأفكار المتسارعة و آلام شديدة في الرأس و عبرات لا تتوقف...لأجد نفسي أمام نهر آخر لم أحسب له أي حساب...تذكرت أن به قنطرة تختفي كلما ارتفع منسوب المياه لتقطع الطريق أمام كل وسائل النقل الصغيرة و أحيانا الكبيرة...حائرة أقف أمامه لا أدري أين أجد مسلكا...فورة غضبي و ردة فعل من كان يجب أن يقف بجانبي أنستني ما تعلمته عن حفر تتوسط الأنهار و عن كتبان تبدو كصخور و ...مددت قدمي ...غابت وسط المياه الجارفة...سمعت نداء و صفيرا و كلاما ...لم أفهم منه شيئا بسبب صوت النهر و هو يشق طريقه...زلت قدمي و لكن هذه المرة خيل إلي أنني لم أبال ...لم يعد يهمني أمر النجاة أو التشبث أو الأمل...غارت قدماي وسط الأوحال و ارتفع الماء إلى سرتي فوقفت أبحث عن طريق آخر...التفت يميني فإذا بصاحب الصوت و الصفير سائق شاحنة يحذرني من المغامرة...لحظتها كنت على بعد خطوات قليلة من صخور..أو ما اعتقده صخورا.استمر صراخه مناديا لا تــ.....لا تــ...لم أسمع جيدا ما كان قصده هذه المرة...وصلت إلى الصخور فمددت يدي لكنها انزلقت و عدت القهقرى و كدت أفقد توازني...فهمت حينها ماذا كان يقصد...هذه ليس صخورا..إنها مجرد كثبان رملية ..لم أجد حلا آخر سوى التشبث بها و تسلقها بصعوبة شديدة مستعينة بيدي و ركبتي و بكل ما أوتيت من قوة...و ابتعدت و كل رجائي أن أغيب عن الأنظار...جلست قرب حائط أرتعش من شدة البرد و أزيل عن ملابسي كتلا من الأتربة الحمراء...أخذت هاتفي و اتصلت بسائق من معارفي و طلبت منه الحضور حالا إلى حيث أتواجد ...أكثر من ربع ساعة من الانتظار ألتمس لنفسي دفئا من أنفاسي و ضم ركبتي و كفكفة دموعي...حضر أخيرا و بمجرد رؤيته لي بدأ يحوقل و يتأسف على تأخره...فتح لي الباب فارتميت في الخلف و صمت لحظات عرفت أنه عاجز عن وصف شعوره...فهو يعلم من أين أتيت ...طلبت منه عدم التوقف لأي كان و سأدفع له من المال ما يريده...فقط أن يوصلني و ألا يتوقف في باقي المحطات ...بعد قرابة نصف ساعة بعثت رسالة قصيرة أخبر فيها أختي بعودتي...وجدت أمي تنتظرني قرب باب المنزل متلهفة لرؤيتي بعد غيابي شهرين كاملين...رأتني...ضمتني رغم محاولتي تجنب تلويث ملابسها بالأوحال ...بكت...و تابعت صمتي...استقبلتني أختي و لم تستطع أن تحدثني...صمت رهيب عم المنزل فجأة...أسرعت أختي إلى المطبخ لجلب مياه ساخنة...و ساعدتني أمي على نزع ملابسي و تغييرها في صمت محزن بدموع على خديها ...استلقيت على سريري أستجدي دموعا لا أريد إطلاق سراحها الآن و عبارات لم أعها تخرج مني تدعو أمي إلى الاطمئنان..." من أجلك أمي...أستطيع أن أتحمل الكثير " دثروني بأغطية دافئة ناعمة و ما زال جسدي مصرا على الارتعاش...و لم أشعر بالدفء يسري في جسدي إلا حين وضعت أختي قنينات بداخلها ماء ساخن تحت الفراش و قرب قدمي ...طلبت منهما أن تغلقا الباب لأن رغبتي في النوم غلبت رغبتي في الأكل...أغلق الباب...فسالت دموع و خرجت توسلات و أدعية و شكوى......نمت على إيقاع كوابيس الغرق و الفيضانات و الموت و وحشة الخلاء...نمت و آلام كثيرة بداخلي و ذكريات لا تنسى تقض مضجعي...

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    https://www.profpress.net/