الأسرة والمدرسة العمومية، علاقة مفقودة وعرى مفككة

الإدارة مايو 15, 2017 مايو 15, 2017
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

الأسرة والمدرسة العمومية، علاقة مفقودة وعرى مفككة

الأسرة والمدرسة العمومية، علاقة مفقودة وعرى مفككة

 ـ نورالدين الطويليع‎

رجع كريم الذي يدرس بالسلك الثانوي من المدرسة على الساعة السادسة والنصف مساء, وجد والدته منهمكة في اجتماعها اليومي مع جاراتها أمام باب المنزل, سلمته بالمفتاح دون أن تحدثه بشيء, لأنها نذرت لصديقتها صوما عن الكلام, وحرصا على الإنصات لحديثها الشيق حول مسلسلها المفضل، رد كريم إلى أمه بضاعتها في لمح البصر, بعدما رمى محفظته في فناء البيت, ثم أطلق ساقه للريح, قاصدا محلا للألعاب الإلكترونية, اعتاد هو وزملاؤه أن يحجوا إليه كل يوم.
على الساعة العاشرة مساء آب كريم ذو الشعر المنفوش الذي تتخلله ممرات معبدة، وسروال "الجينز" المليء بالثقب، إلى المنزل، توجه صوب المطبخ وتناول ما وجده متناثرا فوق المائدة، فيما كانت الأم معتكفة في محراب غرفة التلفاز تؤدي طقوس الإنصات والمتابعة الدقيقة للمسلسل الذي حدثتها عنه جارتها، وكأن على رأسها الطير، اقتحم الابن على أمه غرفتها، لكن جهوده لقطع تبتلها ذهبت سدى، حيث نهرته بمجرد ما نطق بضع كلمات كان يريد من خلال الاسترسال فيها إطلاعها على بعض نشاطه اليومي، وأمرته وهي عبوس مقطبة بالانصراف إلى غرفة نومه، والكف عن إزعاجها وقطع قداس مشاهدتها الممتع...أرجع كريم تحية أمه  بأحسن منها، وانصرف إلى غرفته التي أحكم إغلاقها، وفتح صفحته الفيسبوكية من هاتفه الذكي، ثم طفق يدردش مع زملائه ويتبادل معهم النكت والقفشات، قبل أن يستسلم للنوم في تمام الساعة الواحدة صباحا، دون أن يتمكن من رؤية والده الذي اعتاد التوجه من العمل إلى المقهى مباشرة، والعودة إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل، قاصدا غرفة نومه، دون أن يسأل عن أحد، أو يحدث أحدا.
حكاية كريم هذه تلخص واقع الاستقالة الجماعية للأسر المغربية، وتخليها عن تتبع أبنائها ومراقبتهم، وصرف النظر عنهم نهائيا، كأنما الطائفتان تعيشان في جزيرتين منعزلتين، تقع كل منهما في دائرة اهتمام مختلفة كل الاختلاف عن الأخرى، فالآباء غادروا البيوت، واتخذوا من المقاهي، ومن أمكنة أخرى مقرات بديلة، ناشدين راحة وهمية من صخب اليومي، ومن ضجيج الأبناء، لا يبرحونها إلا بعد أن يتأكدوا من استتباب الأمن بالبيت بعد استجابة الأبناء لمساعي النوم الحميدة، والأمهات، ونتيجة لثقل الحِمْلِ، ولعدم قدرتهن على تحمل عبء تتبع الأبناء ومتابعتهم، وعجزهن عن حمله من كلتا عروتيه، فضلن الهروب إلى الأمام، ورمي جذوة النار الحارقة بعيدا، تاركات الجمل بما حمل، ليستعضن عن ذلك بحكاية هذه التي ستتزوج بعد خطبة استمرت سنوات، وتلك التي تُبَاشَرُ ضدها إجراءات الطلاق، وغيرهما من المواضيع التي تقدمها المسلسلات المدبلجة الطويلة الأمد التي تمنح متتبعها نخب التعويض عن التفكير في الواقع، وتكفيه شر وخزاته، وتقدم إليه شخصيات بديلة بصورة ناعمة تختلف عن تلك التي يجمعه وإياها الواقع، ويعيش معها تحت سقف بيت واحد، مع ما يطبع الأولى من سلاسة، ومن قدرة على الاستقطاب والإثارة، وما يميز الثانية من زيادة الضغط بشتى أنواعه، وخلق التوتر، وزرع الملل والسآمة والضجر، في غياب النصف الآخر المولي ظهره بدوره عن هذا الواقع "تاركا الأمر للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره"، لتصبح المدرسة وتتبع تمدرس الأبناء أمرا لا وجود له ضمن قائمة الاهتمام الأسري، لأن اللياقة الاجتماعية المفقودة أو الضعيفة النبض تفقد الطرفين (الأم ـ الأب) القدرة على الجري في حلبة تستدعي وتتطلب توفر نفس طويل، لا تحضر معه اهتمامات جانبية  هي في كثير من الأحيان مسريلة بطابع الهامشية والتفاهة.
في ظل هذا الذي يدخل ضمن ما يسميه الدكتور عبد الرحيم العطري بحوادث السير الاجتماعية يسعى الأبناء إلى التعويض عن يتمهم المعنوي من خلال الارتماء في أحضان اللهو والعبث واللامبالاة والعيش في عالم الأوهام، ونتيجة لهذه النتيجة الكارثية تصبح المدرسة ضحية هؤلاء الضحايا حينما يُصَدَّرُ إليها أطفال يعانون من نقص هرمون العاطفة الأبوية، ويمتلكون بسبب ذلك استعدادات قوية للجنوح، وحينما تفتقد إلى شريك حقيقي يتقاسم وإياها هَمَّ متابعة تلاميذ أخذوا ما يكفي من حقنة الإهمال والتحرر من قيود المتابعة بالبيت، ولا يجدون حرجا في استنساخ التجربة وفرشها داخل أسوار المؤسسة التعليمية، واستنبات اليتم التربوي من عمق يتمهم الاجتماعي.
إن أكثر من ثمانين بالمئة من تلاميذ المؤسسات التعليمية العمومية هم ضحايا لواقع هذه سماته، أو بعض سماته، ولذلك فهم يلعبون دور أرانب السباق من خلال مرافقة القلة القليلة من زملائهم على مستوى الحضور والتأثيث الجسدي، دون أن يكون لهم نصيب يذكر في مجال التحصيل الدراسي، فلا فرق عندهم بين بداية الموسم الدراسي ونهايته إلا بالزمن، أما عن المردودية فالأمر سيان، وللمشكك أن يسألهم في نهاية السنة عن الحصيلة، ولا شك حينئذ أنه سيجد بأن البقر تشابه عليهم إلى درجة العجز عن التمييز بين الوحشي والأليف منه.
لقد آن الأوان لتقلع الأسر عن إدمان النكوص والانصراف عن مسؤولياتها الجسيمة تجاه المدرسة، ولتتحمل مسؤوليتها كاملة بهذا الصدد، كما يجب على المسؤولين التربويين إيقاظ هذا التنين الذي استغرق في نومه العميق من خلال سن قوانين تفرض على الهاربين الحضور الإجباري للمؤسسات التعليمية، والمشاركة في اجتماعات دورية مع أطرها الإدارية والتربوية، ليعرف الجميع واجبه عن كثب، ويضطلع كل واحد من جانبه بالدور المنوط به، ودون ذلك سنقول سلام على المدرسة العمومية.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    https://www.profpress.net/