مقالة حول صراع الأجيال بين الأطر التعليمية
حين تلتقي عقليات مختلفة عن الأخرى ، و بينها أمد
بعيد من طريقة التفكير و نمط العيش و النظرة إلى الحياة و فهمها فهذا كفيل بخلق تصادم أجيال اِخْتلفت في كل
شيء فكان الصدام سمةً تطبع علاقاتها اليومية ، إنها تمثل حالة طبيعية لما سمي
بالصراع بين القديم و الحديث ، فالحداثي
يسعى إلى التمرد على القديم و الخروج على طوعه ، أما القديم فهو حريص على
التشبث بتقاليدَ ماضيةٍ منافحاً عن إرث سلف الجيل الذي رتع فيه ردحاً من الزمن ،
هذا السّجال عُرف في كل مجالات الحياة و ضروبها ، و أُلّفت في شأنه كتبٌ كثيرة تبين هذه الحالة التي قد تكون محمودةً من باب
رحمة الاِخْتلاف ، لكنه يصير خلافاً عنيفاً في تارات أخرى حين تختلف الذات المجددة
و الذات التقليدية.
مجال التدريس لا يخلو البتة من هذا
التصادم بين الأجيال ، هناك عقلية تقليدية تشربت معين برامج انتهت صلاحيتها
و ولى عهدها ، و قضى مفكروها
نحبهم ، لكن تجد من لا زال يعض عليها
بالنواجذ ، مطبِّقَهاَ بحذافيرها في علاقاته مع محيطه المدرسي ، و هناك عقلية
مجددة تسعى إلى البحث عن الجديد ، و تفتش عن الإبداع ، و تتقاطع مع القديم ، و تنفتح
على البرامج المستجدة.
تحتاج العقليتان إلى نوع من
التكامل و الانسجام في العمل لسريان
مهمتهما بسلاسة و حسن تدبير ، لكن الواقع للأسف يشهد عكس ذلك ، فهناك تدافع رهيب بين هذه العقليات ، فالعقلية
التقليدية تعتبر أي خروج على النظام الذي تشبعت به ، و اهتدت بهديه تمرداً و
عقوقاً و شقَّ عصا الطاعة ، و من ثم فهو يقتضي الإبادةَ و القمع و التجاهل ، أما
العقلية المتجددة فتعتبر العقلية التقليدية صدوداً عن مشاريع راودتها منذ أن أنيطت
بها مهمة التدريس ، مما يحتم التمرد عليها و إحداثَ ثورة مطالبة بالتغيير و ضرورة
التجديد.
هيئة التدريس ذات العقلية
التقليدية تنظر إلى المحيط المدرسي نظرةً
مطلقة ، كل استنتاجاتها و خلاصاتها الماضية منزهة عن الخطأ، و معصومة من أي زلل أو
شائبة ، يحاولون إسقاط تجاربهم مع عصر عرف بالقمع و الرأي الواحد على واقعهم
الحالي المتغير الذي انقلبت فيه الأمور إلى تعدد الآراء ، و نسبية الأحكام ، لذلك
طبيعي أن تكون أفكارهم اجتراريةً في المحيط المدرسي ، و تساهم في امْتهان المدرسة
، و تكريس وهنها الضاربة أطنابُه...
أما هيئة التدريس ذات العقلية
المتجددة فهي تنظر إلى المحيط المدرسي نظرةً تتسم بالمرونة ، و قَبول الرأي الآخر،
و أخذ الأمور في نسبيتها ، و بسط أفكار جديدة هي وليدة آخر ما تم التوصل إليه من
نظريات حديثة ، و هذا يساهم في ازدهار المدرسة ، و تفتق ذوات مبدعة قادرة على خلق
التطور المنشودة مراميه في التعليم .
حين تلتقي العقليتان يكون الصدام
أمرا طبيعيا ما دام التمايز بينهما ملقٍ
ظلالَه على العلاقة القائمة بينهما ، رغم أن وضعيتهما تحتم عليهما خلق تكامل
لتحقيق النتائج المنشود تحقيقها ، من كلا الجانبين ، العقلية التقليدية راكمت
تجارب كثيرة ، و استوعبت الكثير من أسرار المهنة ، لكن غياب ملكة التجديد حرمها من
تقديم أنموذج حديث يطور عملها التربوي ، و هذا ما لا يتم استساغته من لدن العقلية
المتجددة التي ترفض هذا التحجر ، و تحاول الانعتاق منه ، هي تنشد تطبيق مخططاتها
التربوية التي خامرتها في ذهنها ، مخططاتٍ وليدةِ العصر الذي نعيشه ما داموا فردا
حديثي العهد به .
من باب التجني أن ننعت كل هيئة
تدريسية كبيرة السن بالعقلية التقليدية ، لأن التجديد لا سن له ، فكما أن
الأربعيني أو الخمسيني قد يطور عمله التربوي ، و يجعله مسايرا لأهم مستجدات علوم
التربية و المناهج الحديثة فهناك عقليات شبابية ما زالت ترهن نفسها في خندق أفكار بالية
و جامدة أكل عليها الدهر و شرب .
جدير بالبيان أن منظري علوم
التربية لم يتطرقوا كثيرا إلى مثل هذه القضايا الهامة مستغنين عنها بالانكباب على
القضايا المفاهيمية ذات الطابع النظري .
إن الاهتمام بمثل هذه القضايا في
المجال التربوي حري بخلق مؤسسات تعليمية تقصي الهوة السحيقة التي تخلق بين هيآتها
التربوية ، خاصة فيما بتعلق بالمشاريع التربوية التي تخص المؤسسات ، و تنهي
الخلافات التي تدب دائما في فضاءاتها ، و التي صارت ميدانا تتداعى إليه أعين ساعية
إلى استئصال شأفة التعليم و إدخال القلاقل
إليه ، أما تهوين الأمر و التغاضي عنه
فمن شأنه زيادة الهنات التي توهن التعليم
و تجعله دائما القهقرى.
أشرف سليم , أستاذ مادة اللغة
العربية