نحو تكريس ثقافة حقوق الإنسان و بناء الدولة الديمقراطية الحديثة
نحو تكريس ثقافة حقوق الإنسان و بناء الدولة الديمقراطية الحديثة
" الناس لايقتلون من اجل
فصل السلط بل من اجل الكرامة و الحقوق " الان تورين ، العالم البارز في علم
الاجتماع
حقوق الانسان هي ثقافة تتضمن
مجموعة من القيم و المبادئ الموجهة للسلوك الانساني ، كما تتضمن صورة معينة عن
الانسان و المجتمع و السياسة . ففكرة حقوق الانسان تطورت عبر مسار طويل حيث
يعتبرها René Casin [1] ، علما يرتكز على الدراسة و البحث وفق
الكرامة الانسانية : " علم حقوق الانسان يمكن تعريفه كفرع خاص من فروع العلوم
الاجتماعية ، موضوعه هو دراسة العلاقات القائمة بين الاشخاص وفق الكرامة الانسانية
مع تحديد الحقوق و الخيارات الضرورية لتفتح شخصية كل كائن انساني " .
وتعتبرها الامم المتحدة : "
تلك الحقوق المتأصلة
في طبيعتنا ، و التي بدونها يستحيل علينا ان نحيا كبشر ".
تقوم ثقافة حقوق الانسان على قيم جديدة
كالحرية ، بل الحريات : الرأي ، الضمير ، التجمع ، التنقل، الانتماء . فجوهر
الحقوق و مسلماتها الاساسية هي حرية الكائن البشري و حقه الاساسي ، و من ثمة
فمنظومة حقوق الانسان مثلما انها بنية قانونية لترسيم هذه الحرية و بيان حدودها و
تقاطعاتها ، فإنها منظومة اخلاقية ايضا ...
ينتج عن هذه النظرة ان ثقافة حقوق
الانسان هي ثقافة مساواة بين الاجناس و الاعراف و الثقافات و بين الافراد داخل
المجتمع الواحد . و قد صاغ الاعلان العالمي هذه الفكرة بقوله: "يولد جميع
الناس احرارا متساوين في الكرامة و الحقوق " . لكل انسان حق التمتع بجميع
الحقوق و الحريات ، و بالإضافة الى ذلك فان ثقافة حقوق الانسان هي ثقافة الدعوة
الى السلم و الحوار و التفاهم بين الشعوب .
و
الحقيقة ان حقوق الانسان عامة ، هي أقرب ما تكون الى المثل منها الى الواقع ، لكن
الحقوق السياسية هي فصيلة الحقوق الاقرب الى التحقق في الواقع من حيث انها تتجسد
فعليا في النظام السياسي الديمقراطي .
فالديمقراطية الحق ، ترتبط بوجود المواطن الواعي بحقوقه ، و الممارس لها
جزئيا او كليا . و ان العلاقة الجدلية بين
حقوق الانسان و سيادة الدولة هي : اشكالية قديمة عاقت ارساء دعائم الدولة لحقوق
الانسان ، ودفعت بالسلوك و المواثيق الدولية التي تتناول مختلف قضايا حقوق الانسان
التعامل مع هذه الازدواجية ، و الاخذ بعين الاعتبار الحريات العامة للفرد و
الارادة السياسية للدولة كمعيارين اساسييين لتحديد نطاق تطبيق القانون الدولي
لحقوق الانسان ، فالدور الاول للدولة هو حماية الحقوق الفردية و تنمية شخصية
الانسان .
و هكذا جاءت هذه الدراسة مشتملة لأربعة مباحث ، خصصنا المبحث الاول لنشأة و
تطور حقوق الانسان ،والمبحث الثاني لأصناف و اجيال هذه الحقوق. و في المبحث الثالث
تناولنا فيه مفهوم السلطة الجديد في ظل الديمقراطية و حقوق الانسان كعنصران
أساسيان لدولة القانون. و في المحور الاخير تم التطرق الى الاليات الدولية لمراقبة
تطبيق حقوق الانسان (القانونية و القضائية ).
المبحث الاول : نشاة وتطور حقوق الانسان
يضرب مفهوم حقوق الانسان بجذوره البعيدة في الفكر القديم ،فنشأة حقوق
الانسان تعود ايضا الى :
-الأسس و المعتقدات الدينية ، و خاصة
السماوية ، فالله هو الذي يبين الحق و الواجب ، و يضع ضوابط العلاقات سواء بين
الشخص و ذاته أو مع غيره ، أو اتجاه المجتمع و السلطة الطبيعية ، فيحدد ما يجب
فعله أو تركه ، وما يفترض اتيانه .و استفادت حركة حقوق الانسان ايضا ، من فلسفات
الحق الطبيعي ، أي قانون الطبيعة ، أي من طبيعة الناس ، وان الانسان له حقوق فطرية
، وأصيلة و طبيعية لا تتأثر
بالزمان و المكان . فميلاد حقوق الانسان يرجع الى القرن السابع عشر الميلادي ، و
ذلك بربطه بمدرسة الحق الطبيعي (غراتيوس ) ، هذه النظريات تنطلق من ان هناك ضرورة
لرصد وجود تناغم بين القانون و الطبيعة ، أي انتقالها من صيغتها الفلسفية الى
القوانين الوضعية .
-القانون الوضعي : و هو مجموع القوانين
المكتوبة ، او عادات الماضي التي لها قوة القانون ، و التي تصدر عن سلطة معينة في
واقع معين و مجتمع محدد . فالحقوق حسب القانون الوضعي : " ليس هناك حقوق دون
خضوعها لتنظيم ، و نص قانوني وضعي ". مما يجعل الحقوق ذاتية و نسبية تخضع
للتوازنات ، و تقدير الواقع عكس الحقوق الطبيعية على انها موضوعية . لذلك فقد انصب
الجهد قيما بعد برصد التصاريح و الاعلانات ، ثم دساتير ما بعد الاعلانات ثم كذلك
المواثيق الدولية .
1- اعلانات ما بعد الثورات [2]: ان النشأة
الحقيقية لهذا المفهوم- حقوق الإنسان -ارتبط بالتحولات التاريخية و الفكرية منذ
عصر النهضة و التي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر، كالثورة الامريكية 1776 والإعلان
العالمي لحقوق الانسان و المواطن الذي اعلنته الثورة الفرنسية 1789، و كذلك لعبت المرجعية
الاشتراكية و الماركسية و الثورة البلشفية 1917، دورا هاما في اغناء نظرية
حقوق الانسان ،إلا ان تبلور
حقوق الانسان في مواثيق ، ثم معاهدات مؤسسية ترعاها المنظمات الدولية قد هيأت له
فقط هذه الاحداث و الثورات التاريخية الكبرى التي حدثت في اوروبا و امريكا ابتداءا
من اوائل القرن الثامن عشر ، بل اسست له كذلك مدارس و اتجاهات فلسفية و حقوقية
عديدة .
- اعلان الثورة الفرنسية " اعلان حقوق
الانسان " ، الي تبنته الجمعية العامةسنة 1791 و الي اصبح تمهيدا و عنوانا
اولا للدستور .
-اعلان جيروندين GIRONDIN سنة 1793, وهو توجه تزعمه نواب برجوازيون دافعوا
عن الحقوق الاقتصادية و حماية مطلقة للملكية و حرية التجارة و الصناعة .
-اعلان مونتانيارد
الذي سبق دستور 24 يوليوز 1793 و تبنى افكارا عامة الشعب
كالمساواة القانونية ، ومراجعة الضرائب و التعليم ، و هو بدلك يؤسس للحقوق
الاجتماعية .
-التصريح
اللامريكي و استقلالها عن المستعمرات البريطانية ، حيث ساد نفس المناخ الدي تعيشه
فرنسا و المانيا .
- التصريحات
الانجليزية ، فهده الاعلانات في الواقع كانت سياقية في اعلان عدد مهم من الحقوق
مند القرن 13 كمكناكارتا MAGNA CARTA يتم بموجبها
هدا الميثاق الاتفاق بين الملك و البارونات علة ان يتم احترام عدد من الحقوق ،
كالحق في التنقل ، ووضع ضمانات من الاعتقال التعسفي . كما ساهم ملتمس الحقوق 1628
، في التاكيد على منع الاعتقالات التعسفية ، ومنع فرض اية ضريبة رسوم .
- قانون الهابياس
كوربويس 1679، قام هدا القانون على التدكير مرة اخرى باحترام الامن و الحرية
الشخصية ضد كل اشكال الاعتقال التعسفي .
-قانون الحقوق
1689، كعريضة قدمت للملك، و أصبحت فيما بعد بمثابة قانون من قوانين المملكة تقيد
سلطات الملك المطلقة.
2 - دساتير مابعد
الاعلانات :
ان تثبيث اركان الدولة و الانظمة ، كان بفعل الدساتير
بعدما شكلت الاعلانات لحظة مهمة في بث الافكار الليبرالية و الحرية و المساواة .
فالدستور ليس وثيقة فقط ، بل هو ضمانة اساسية و سامية للحقوق و الحريات . كدستور
" وستفاليا " 1807 في المانيا الذي الغى الحقوق المطلقة للنبل ، و مساواة
الجميع امام الحقوق و القانون .
-
الدستور الاسباني 19 مارس 1812 ضدا على نظام
نابليون ، و الذي اسس ملكية دستورية
-
- دستور سيسيلنا 1812 الذي نص
عل الحق في التعبير و المجاهرة بالرأي السياسي اضافة الى الدستور الفرنسي 1791 و
الامريكي 1787.
3-
الاعلانات و المواثيق الدولية للقرن 20:
ان نظرية حقوق الانسان تطورت من خلال
نضال الحركة الحقوقية ، لتجعل حقوق الانسان حقوقا كونية ، ومن هذا المنطلق صدر الاعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948، كما اصدرت
الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966، عهدين دوليين اولهما العهد الدولي للحقوق
المدنية و السياسية ، و ثانيهما العهد الدولي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
.
لقد تطورت حقوق الانسان في اطار وظائف الجدولة اليعقوبية ، و معالم الثورة
الفرنسية ، و في هذا الاطار ، شكلت نظرية الحقوق الفردية أو الطبيعية عماد هذه
النظرية ، فقد كان واجب اليعقوبية ، هو حماية الحقوق الفردية ، حيث اصبحت في
المرحلة الثانية ، هي حماية حقوق الجماعات سواء تعلق الامر بجماعة اثنية ، أو
دينية . اضافة الى ذلك لعبت نظرية حقوق الانسان دورا كبيرا في تحديد مفهوم
الديمقراطية نفسه ، حيث لم تعد الديمقراطية تفيد حكم الاغلبية ، بل اصبحت تفيد
التزام الاغلبية بضمان حقوق الاقلية .
المبحث الثاني :اصناف و اجيال حقوق الانسان
بات المجتمع الدولي يعترف بثلاثة اجيال من
الحقوق التي تغطي مختلف ابعاد النشاط الانساني :
-الجيل الاول يتمثل في الحقوق المدنية و والسياسية
وهي العمود الفقري
لكل الحقوق الاخرى ، فغالبا ما ترتبط ديمقراطية النظام السياسي برعاية الحقوق
السياسية للمواطنين ، ومن ثمة الارتباط الضمني و الشرطي بين الديمقراطية و حقوق
الانسان ، فإذا لم يكن النظام السياسي ديمقراطيا ، فانه لا يمكن ان يراعي حقوق
الانسان ، أي ان الديمقراطية و حقوق الانسان ، يشكلان عنصرين رئيسيين لإرساء
المشروعية السياسية على اساس حديث ، قوامه استعادة مشروعية الحكم من الشعب بواسطة
الاقتراع الحر النزيه الذي يقود الى نشوء دولة الحق و القانون .
يمكن
ان نجمل الحقوق السياسية قي لربع مجموعات ، وهي حق الانتماء السياسي و حق المشاركة
و الاختيار ، و حق التعبير ، و الحقوق السياسية للشعوب ، و في الاخير فان هذه
الحقوق يمكن التعبير عنها بلغة الحرية ، انها حريات اساسية ، لا يمكن بدونها لن
يكون المجال السياسي ديمقراطيا ، وغير محترم لحقوق الانسان ، فهي التي تعطي للأفراد
صفة المواطنة كحق ثابت .
- اما الجيل الثاني من الحقوق
فهو يشمل الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية . حيث تتجلى أهميتها في كونها توفر شروط العدالة و المساواة و تكافؤ
الفرص ، وهي وسيلة ضرورية لضمان كرامة الانسان ، بغض النظر عن دينه أو لغته أو
جنسه أو مجاله الترابي . اضافة الى كون الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
تضمن هوية الشخص و هويته من خلال منحه القدرة على ممارسة الحقوق السياسية و
المدنية بشكل حر ، فالنشاط الاقتصادي ، يوفر للأفراد وسائل الرقي الاجتماعي و
التقدم ، فالإنسان ينزع نحو التملك و التصرف في ممتلكاته بحرية في اطار ضوابط
قانونية و دستورية .
- الجيل الثالث لحقوق الانسان
او الحقوق الحديثة [3]، فقد ظهرت خلال السنين الاخيرة
دعوات لاقرار حقوق قد يبدو انها جديدة كالحق في السلم و الحق في بيئة سليمة
و الحق في التنمية ، حيث لن ان اعلان الحق في التنمية مثلا لم يعتمد إلا سنة 1986
، و هناك ايضا الاعلان العالمي حول التقدم و التنمية في المجال الاجتماعي الصادر
سنة 1969 .
ان المواثيق التي شملت ، ما عرف بالجيل الثالث ، ليست في الواقع سوى رد فعل
على الظروف و المعطيات الجديدة التي أصبحت تزخر بها الحياة المعاصرة و التي تهدد
حقوق الانسان ، فالحق في السلم ، هو تعبير عن رفض الحروب ، كما ان الحق في البيئة
السليمة ، يتجاوب مع طبيعة الكائن البشري ، و الحق في التنمية يجسد الرغبة في
التغلب على مشاكل التخلف .
المبحث الرابع: مفهوم السلطة
الجديد في ظل الديمقراطية و حقوق الانسان ، كعنصران اساسيان لبناء دولة القانون
ان الديمقراطية ، قبل كل شيء ، هي
النظام السياسي الذي يمكن الفاعلين الاجتماعيين من ان ينتظموا و يتصرفوا بحرية ، مبادئه
الاساسية هي المبادئ التي تحكم وجود الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم . و لا وجود
لفاعلين اجتماعيين الا اذا تم توافق الوعي المبطن بالحقوق الفردية و الجماعية ، و
الاعتراف بتعدد المصالح و الافكار ، بالصراعات بين المهيمنين و المهيمن عليهم عل
الخصوص ، و أخيرا مسؤولية كل فرد ازاء التوجهات الثقافية المشتركة، الامر الذي
يترجم في نظام المؤسسات السياسية بثلاثة مبادئ : الاعتراف بالحقوق الاساسية التي
يتعين على السلطة ان تحترمها ، التمثيلية الاجتماعية للحكام و لسياستهم ، الشعور
بالمواطنة ، و الانتماء الى جماعة قائمة على القانون .
ان الوظيفة الاولى لحقوق الانسان هي الحد من
سلطة الدولة ، فمنظومة حقوق الانسان هي منظومة الحقوق التي لايجوز لا سلطة سياسية
ان تسلبها او تستولي عليها،كما ان الاليات الديمقراطية هي في الاساس مراقبة لأداء
السياسة للسلطة و الحد من تسلطها ، فالديمقراطية هي تأسيس للسلطة و ارسائها على
اساس التمثيلية الشعبية ، وفي نفس الوقت تأسيس لسلطة مضادة للمراقبة و المحاسبة ،
فالديمقراطية السياسية جاءت لتجعل كل شيء يتم بواسطة الشعب او على الاقل برضائه، و
ينطبق مدلولها الحقيقي عادة على الدولة التي تسود فيها ارادة الشعب او غالبية
افراده [4].
ومن حيث ان الدولة الحديثة بحكم استفادتها من وسائل التطور التقني ، هي
دولة مركزية و ميالة الى تضخيم سلطتها ، و الى الهيمنة على اوصال المجتمع ، فان
كلا من الديمقراطية و حقوق الانسان منظومتان ثقافيتان و مؤسستان ، يمكن ان تقوما
بدور السلط المضادة التي تحد من تضخيم السلطة .و ذلك ما يشير اليه الان تورين
بقوله : " نعتقد ان الديمقراطية لا تكون قوية الا حينما تخضع السلطة السياسية
الى احترام للحقوق المحدودة عل نحو يزداد اتساعا ، المدنية اولا ، الاجتماعية ايضا
و حتى الثقافية".و يضيف ايضا : " ان الديمقراطية تفرض على نفسها المعركة
على جبهتين : عليها ان تصارع السلطة المطلقة ، سلطة الاستبداد ، ولكن يتعين عليها
ان تضع حدودا لفردا نية فعالة يمكن ان تفصل بالمرة المجتمع المدني عن المجتمع
السياسي , و ان تترك المجتمع السياسي مستسلما الى العاب يمكن تحريفها بسهولة ، او
الى السلطة الكاسحة للإدارات و المقاولات "[5].
تفترض كل من الديمقراطية و حقوق
الانسان نوعا من التعارض بين الدولة و المجتمع ، فالديمقراطية تأسيس للسلطة
و حماية للمجتمع و حقوق الانسان هي ايضا سندا للديمقراطية ، أي لأسلوب عصري في
الحكم ، لكنها في نفس الوقت تتضمن قيما و تفرض اليات و مؤسسات تستهدف حماية الحقوق
الفردية و الجماعية ضد أي تهديد من طرف الدولة ذاتها .
و
ترتبط حقوق الانسان بالديمقراطية باكثر من وسيلة ، فهما معا مكونان أساسيان للفكر
السياسي للحداثة ، من حيث أنهما معا نشئا في سياق الانقال من ارتكاز السلطة ، و
نظام الحكم على أساس الشرعية التقليدية الى ارتكازها على معايير التمثيلية الشعبية
.
فالديمقراطية ، ثقافة سيلسية حديثة كاملة ، تتضمن تصورتا محددا للسلطة و
للعلاقة بين المجتمع و الدولة ، فالعلاقة بينهما مبنية على التعاقد . و ان
المؤسسات المحدثة عن ذلك بواسطة الاقتراع العلني لمباشر ، و ذلك باعتبار ان الشعب
في التصور الحديث للسياسة ، هو مصدر كل السلط و معيار شرعيتها و مرجعها الاسمى ،
فالدولة العصرية و الديمقراطية هي دولة يتم توزيع السلطة و اقتسامها لا على
الافراد بل على المؤسسات .
و في هذا السياق تندرج ثقافة حقوق الانسان ، و خاصة منها الثقافة السياسية
، كحرية التعبير و الانتماء و التصويت و الترشيح بمثابة مكملات للشرط الديمقراطي
لضمان تمثيلية أكثر شفافية لمطامح و رغبات المجتمع و اراداته. فالديمقراطية
بجوهرها العميق ممارسة يومية تطال جميع مناحي الحياة ، و هي أسلوب للتفكير و
التعامل ، وهي بهذا المعنى ليست شكلا قانونيا فقط ، وليست حالة مؤقتة أو هبة أو
منحة من أحد ، و انما هي حقوق أساسية لاغنى عنها ، وهي دائمة و مستمرة ، وهي قواعد
و تقاليد تعني الجميع ، و تطبق على الجميع دون تمييز ، وهي تعني الاقلية بمقدار
ماتعني الاكثرية [6].
ان دولة الحق و القانون هي دولة القانون ، أي دولة السلطة و النظام ، لكنها
ايضا دولة الحريات ، دولة التوازن بين الواجبات التي يفرضها القانون و الحقوق التي
يفرضها القانون و الحقوق التي يفرضها الحق .
ان دولة القانون هي النظام السياسي الذي يقوم على رسم حدود سلطة الدولة ،
كما تقوم في نفس الوقت بالسهر على حقوق الافراد و تلتزم بضمانها و حمايتها ، كما
تقوم على احترام كرامتهم و تحميهم منت اشكال الظلم و العنف و كل ما يهدد حرياتهم و
حقوقهم[7].
ومن هنا اقترنت الدولة الحديثة ، دولة القانون بالديمقراطية ، اذ لا يمكن
ان تقوم دولة القانون الا في اطار ديمقراطي ، بل لعل دولة القانون هي من مقتضيات
الديمقراطية الفعلية و مستلزماتها .
اجمالا يمكن القول ، بان دولة القانون ، هي النقيض للدولة التقليدية مطلقة
السلطات ، التي تعتبر الحقوق هبات و عطايا و منح تتكرم بها السلطة على رعاياها و
ليست حقوق طبيعية او اصلية ، مثلما هي النقيض التنام للدولة البوليسية التي تحكمها
الهواجس الامنية ، في ان ما يسود في دولة القانون هي العلاقات القانونية السليمة
التي يكون فيه القانون هو الضامن لحقوق الافراد و الفئات المؤطرة بثقافة الحوار و النقاش العمومي .
ومن شروط الدولة الديمقراطية ، لكي تكون دولة
قانون ، نورد ما يلي :
Ø
يجب ممارسة السلطة الرسمية بشكل يتوفر شرط ضمان تطبيق القانون و حكم القانون.
Ø
الفصل بين السلطات ( التشريعية، التنفيذية، القضائية)
Ø
ضرورة توافق النظام السياسي مع دستور الدولة و سيادة القانون و
استقلال القضاء.
المبحث
الخامس :حماية حقوق الانسان : اليات الرقابة و المسؤولية
حقوق الانسان مرتبطة
بطبيعة الكائن البشري، و الاصل أن يتمتع كل انسان اينما وجد بحقوقه و حريته الاساسية
دون قيد او حواجز ، غير ان الصراعات التي عرفتها البشرية منذ القدم ، كل ذلك أصبح
يهدد حقوق الانسان ، الامر الذي يحتم ايجاد الضمانات الكفيلة باحترام الحقوق و
الحريات الاساسية ، وتنقسم هذه الضمانات الى نوعين : أحدهما ، يتعلق بالتدابير
التي تتخذ على صعيد كل دولة ، و النوع الثاني يتمثل في وسائل الحماية الدولية . و
هناك تكامل على المستويين الوطني و الدولي ، باعتبار الهدف واحد هو اقرار ، و
احترام حقوق الانسان بمفهومها الكوني .
المطلب الاول : الاليات القانونية و الدستورية
عادة ما تنص الدساتير
على أهم الحقوق و الحريات الاساسية للإنسان ، و هناك قوانين تضمن تمتع الافراد و
الجماعات بحرياتهم ، كحرية الفكر و التعبير و الصحافة و حرية تأسيس الاحزاب
السياسية ، و المنظمات الثقافية و الجمعيات المدنية ذات الاهداف المختلفة و حرية
الانخراط فيها . هناك ايضا قوانين توفر ضمان حقوق الدفاع و المحاكمة العادلة ، كما
توجد تشريعات أخرى كحماية بعض الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية ، كحق الملكية ، و
حقوق الشغالين ، و الحق في الضمان الاجتماعي .
و ترتبط هذه الاليات الدولية لحماية حقوق الانسان بتعهد الدول الاطراف
بوضع تشريعات وطنية تتلاءم مع المقتضيات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية .
فمصادقة الدول الاطراف على الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، تعتبر
الخطوة الاساسية للعمل على ملائمة القوانين الداخلية مع المعايير ذات الصلة ،
كتعبير على تفعيل تعهد الدول الاطراف بالالتزام باحترام حقوق الانسان بمفهومها
الكوني ، وحتى لا تسقط في مسألة التعارض بين المقتضيات القانونية الدولية و أخرى
وطنية [8]. كما
أن المعاقبة الدولية على الجرائم ضد الانسانية ، و التدخل لاعتبارات انسانية و
التقارير التي تصدرها المنظمات الدولية ، تساهم مساهمة فعالة في حماية الحريات
الاساسية الفردية و الجماعية .
المطلب الثاني : الاليات القضائية
لايكفي ان توجد قوانين
جيدة لحماية حقوق الانسان ، و انما لا بد من وجود سلطة قضائية نزيهة و مستقلة عن
كل السلطات ، و محصنة من أي تاثير لتسهم على احترام القوانين ،و حسن تطبيقها ، و
ضمان مساواة الجميع امامها .
لقد أكدت المبادئ الاساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي
اعتمدها مؤتمر الامم المتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين المنعقد
بميلانو من 26 غشت الى 06 ديسمبر 1985، و اعتمدتها بموجب قراري الجمعية العامة
للامم المتحدة على مجموعة من المعايير المتعلقة بدور استقلال السلطة القضائية لضمان المحاكمة العادلة .
تكفل الدولة استقلال السلطة
القضائية ، و ينص عليه دستور البلد ، أو قوانينه.
تفصل السلطة القضائية في
المسائل المعروضة عليها دون تحيز ، و دون تدخلات من اي جهة .
من جانب اخر تناولت التدابير الفعالة لتنفيذ المبادئ الاساسية
للاستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في القرار
رقم 60 سنة 1989 ، مجموعة من الاجراءات لاعمال المعايير الدولية لاستقلالية القضاء
، منها :
الاجراء الاول : تتعهد حميع الدول بتنفيذ ، و تطبيق مبادئ استقلال
السلطة القضائية ، وفقا لإجراءاتها الدستورية ، وانظمتها المحلية .
الاجراء الثاني : لايجوز ان يعين ، او ينتخب القاضي من اجل اداء مهام
عمله كما لايتفق مع المبادئ الاساسية لاستقلال السلطة القضائية .
الاجراء الثالث: يتعين على الدول ان تولي اهتماما خاصا لضرورة توفير
الموارد الكافية لعمل النظام القضائي ، و يشمل ذلك تعيين عدد كافي من القضاة
لمواجهة الاعباء القضائية ، وتوفير الدعم اللازم للمحاكم من الموظفين و المعداتو
توفير الامن الشخصي للقضاة .
على سبيل الختم
نخلص في الختام الى
القول ، ان حقوق الانسان استثمار بشري هام للموارد البشرية ، وخلق لكائن اعترف له
الجميع نظريا و قانونيا بكل الحقوق ، وهذا الاستثمار في الرأسمال البشري ذاته هو
الضمانة الكبرى لأي تطور ، لأنها رهان على صناعة للإنسان الجديد القادر على صنع
التقدم و استشراف المستقبل .
نعم ان هذه الحقوق ، هي حقوق مثالية أكثر مما هي حقوق واقعية أو وضعية
، لكنها تتحول بالتدرج ، بعد المصادقة عليها من طرف الحكومات المحلية او الالتزام
بتطبيقها الى مصادر للتشريع المحلي و القوانين المحلية ، مما يجعلها ذات قوق
الزامية و تجعل من مقولة " مونتيسكيو" في "روح القوانين "
:" السلطة لاتحدها الا السلطة ".
ان مبادئ حقوق الانسان للمواطن العربي هي تجب ان تحترم ، ونحن عندما
ندافع عن هذه الحقوق فإننا بالدرجة الاولى ندافع عن انفسنا و قيمنا التي نحن ما
احوجنا اليها في زمن العولمة المزلزل العاصف ، ففي الدول العربية لايوجد ما يكفي
من الضمانات لممارسة حقوق الانسان رغم دسترتها ، كما ان اغلب هذه الدول عندما توقع
على اتفاقيات دولية ذات صلة بحقوق الانسان تبدي تحفظا على بعض مقتضياتها الامر
الذي يعتبر التفافا على هذه الاتفاقيات افراغا لها من محتوياتها ، مما دفع
الكثيرين الى الضغط على هذه الدول قصد ازالة تحفظاتها في اطار الاقرار بكونية حقوق
الانسان .
ان التحديات التي تقف امام
الفكر الحقوقي اليوم ، كحجر عثرة منها على سبيل المثال لا الحصر :
تحديات مفاهيمية و نظرية : (مثل مفهوم الثقافة ، الحضارة ، القيم ،
صراع ام حوار الحضارات )
تحديات سياسية من جراء ضعف السياسات الوطنية .
تحديات ذات طابع قانوني ، وذلك باللجوء الى فرض الجزاءات الدولية
الاحادية المصدر ، كالحصارات و الاحتلالات ، تحت ذريعة الحماية و القانون الدوليين
، و بسبب ذلك فان العالم اصبح يتطلع الى ديمقراطية العلاقات الدولية و السعي وراء
اقامة علاقات متوازنة و متكافئة بين الدول الغنية و دول الجنوب ، قبل تحقيق
الديمقراطية داخل البلد الواحد ، واستبعاد جميع النزاعات الهيمنة و الاستعلائية ،
كما لن العالم اليوم ، يجد نفسه في حاجة حقيقية الى نظام عالمي جديد تعزز فيه حقوق
الانسان و تحترم فيه سيادة الدول .
بعض المصادر و المراجع
المعتمدة :
- د.محمد سبيلا ، الاسس الفكرية و الثقافية لحقوق الانسان ، ط1.
المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء.
-د. علي عبود المحمداوي ، الفلسفة السياسية المعاصرة ، من الشموليات
الى السرديات الصغرى ، مجموعة من المؤلفين ، منشورات ابن النديم ودار الروافد
الثقافية ط1، 2012.
-تورين الان ، نقد الحداثة ، ترجمة ع.السلام الطويل ومراجعة محمد
سبيلا .افريقيا الشرق 2010.
-عبد الرحمان منيف ، الديمقراطية اولا ، الديمقراطية دائما ، ط5.
المركز العربي ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، لبنان و الاردن 2007.
- اتركين محمد ، الدستور و الدستورانية : من دساتير فصل السلط الى
دساتير حقوق الانسان ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ط1.
- محمد سبيلا ، عبد السلام بنعبد العالي ، مصطفى العريصة ، في التأسيس
الفلسفي لحقوق الانسان ، نصوص مختارة ، ط1،2013. دار توبقال للنشر ، المجلس الوطني
لحقوق الانسان .
- سيلفان ماتون ، حقوق الانسان من سقراط الى ماركس ، ترجمة محمد
الهلالي ط2(1991) . مطبعة ابريال ، الرباط.
- الرضواني محمد ، مدخل الى القانون الدستوري ، ط2 2014، مطبعة
المعارف الجديدة ، الرباط .
- الجابري محمد ، الديمقراطية و حقوق الانسان . مركز دراسات الوحدة
العربية . سلسلة الثقافة القومية ، قضايا الفكر العربي ، ط1 ، 1994.
- د.البحيري يوسف ، حقوق الانسان ، المعايير الدولية و اليات الرقابة
ط2 ، 2012، المطبعة و الوراقة الوطنية ، الداوديات . مراكش .
- بندورو عمر ، حقوق الانسان و الحريات الاساسية 2007، دار القلم .
- العلمي عبد القادر، في الثقافة السياسية الجديدة، منشورات الزمن،
كتاب الجيب، العدد 47، 2005، مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء .
-
روبير شارفان ،
جون جاك سيبر : حقوق الانسان و الحريات الشخصية ، ترجمة د. علي ضوي 1996 سلسلة
الترجمة -4- منشورات المؤسسة العربية للنشر .
- فكر و نقد ، مجلة ثقافية
شهرية . العدد 26، السنة 3، فبراير 2000
- مجلة الفكر ، العدد 5 ، مبادئ و مقومات الديمقراطية . ذ. صابر موحو
، كلية الحقوق ، جامعة خيضر بسكرة الجزائر .
[1] من
المساهمين الاساسين في صياغة اعلان حقوق الانسان .
[2] إدريس جردان ،" مبادئ اساسية في حقوق
الإنسان "ص 12، منشورات سليكي اخوان . طنجة المغرب طبعة سنة 2014
[3] لقد مرت
حقوق الانسان بثلاثة اجيال ، الفلسفة السياسية المعاصرة : من الشموليات الى
السرديات الصغرى ، مجموعة من المؤلفين ، تحرير و اشراف د. علي عبود المحمداوي .
منشورات ابن النديم – دار الروافد الثقافية ط1، 2012
[4] محمد رفعت عبد الوهاب . النظم السياسية . دار الجامعة الجديدة ،
الاسكندرية 2007، ص179
[5] الان
تورين ، نقد الحداثة .ترجمة عبد السلام الطويل ، ومراجعة محمد سبيلا , افريقيا
الشرق ، المغرب 2010 ص326
[6] ع.الرحمان منيف ، الديمقراطية أولا ،
الديمقراطية دائما ط5 . المركز العربي للثقافة و النشر و المؤسسة العربية للدراسات
و النشر ، لبنان و الاردن 2007ص9-10
[7] J.RUUSS : Les théories du pouvoir :90
[8] يوسف
البحيري " المواطنة و حقوق الانسان بالمغرب " منشورات كلية الحقوق بمراكش
2005 ص40.