التسيب بالمؤسسات التعليمية من كتاب "التعليم بين الكفايات والإدماج، من كرة القدم إلى نظرية داروين"

الإدارة يناير 13, 2019 يناير 13, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

التسيب بالمؤسسات التعليمية   من كتاب "التعليم بين الكفايات والإدماج، من كرة القدم إلى نظرية داروين"

التسيب بالمؤسسات التعليمية   من كتاب "التعليم بين الكفايات والإدماج، من كرة القدم إلى نظرية داروين"


د عبد الله لخلوفي
إن التسيب المستشري في المؤسسة التعليمية يشكل عاملا مفصليا آخر، أدى بالمدرس حتما، بتفاعله مع العوامل السلبية السالفة الذكر، إلى التقاعس عن القيام بمهامه وتحمل مسؤولياته، التي أصبح لا طاقة له بها. نعم، لقد أصبح التسيب ظاهرة تعم المؤسسات التعليمية، بحيث لا يتطلب الأمر أكثر من متابعة ما يكتب يوميا على صفحات الجرائد الوطنية، على كثرتها. فالمدرس المسكين لا يستطيع حتى ضبط النظام بالقسم المكتظ بالتلاميذ في غياب سلطة الإدارة المتشبعة بشعارات حقوق الطفل المقلوبة رأسا على عقب. نعم فهمنا حقوق الطفل على هوانا، وفصلناها على قياس فهمنا المتخلف؛ فبدل أن نعمل على ضمان حقوقه في التعلم على أسس متينة معلومة، بتربيته على أسس سليمة لتهيئته لتحمل مسؤولياته بكل جدارة واستحقاق كرجل (وامرأة حتى لا أتعرض لغضب من أضاعوا حقوق المرأة، تماما كما حدث مع الطفل) غد كفء، تركنا له حرية فعل ما يريد، يفع ما يمليه عليه تفكيره القاصر في بيئة مدرسية جد ملوثة. نعم، يعرّف الطفل طبقا لمفاهيم حقوق الإنسان العالمية، بأنه قاصر حتى سن الثامنة عشرة، أي أنه لا يحسن تقدير عواقب الأمور، أي أنه غير مسؤول عن تصرفاته، وهو ما يقتضي في حقيقة الأمر أن نعمل على الحيلولة بينه وبين ما قد يصدر منه من تصرفات غير مسؤولة، ونتعهده بالتربية على اكتساب منهجية سليمة في التفكير والتصرف قبل البلوغ! (علما أن البلوغ البيولوجي، البلوغ الحقيقي، يحدث قبل سن الثامنة عشرة، وهو ما يؤهله، ويؤهل البنت، التي تسبق اطفل في البلوغ، للإنجاب ...).

إن رجل التعليم قد ترك لوحده في الميدان يصارع من أجل حفظ ما تبقى له من ماء الوجه كما يقال. فكما ترك لشأنه في مواجهة التضخم المعرفي الكمي والنوعي المهول، فقد ترك لشأنه كذلك في مواجهة التسيب الذي تفشى داخل المؤسسات التربوية وفي محيطها وفي المجتمع ككل. ترك لوحده في مواجهة التسيب الذي تفشى بين التلاميذ وحتى بين الكثير من أولياء أمورهم المتشبعين بالإحساس بالنقص الاجتماعي المولد لمرض الأنانية والتعالي و"الله مع الجاه العالي" . فحينما يضطر المدرس (وقد يكون هو كذلك من هذا الصنف الاجتماعي) إلى فعل شيء ما للحد من الفوضى بالقسم، فإنه يفتح على نفسه بابا من المشاكل يصعب غلقه، بحيث يصبح وجها لوجه مع هذا الصنف من أولياء التلاميذ، وكذا مؤسستي الأمن والقضاء، متى رفع الأمر إليهما. نعم، قد تلفق إليه التهم، خاصة بالضرب العنيف، وقد تدعم التهمة المفبركة بشهادة طبية على قدر الأداء ، فيجد نفسه في ورطة مفتوحة على كل الاحتمالات. وفي غمرة كل هذه المشاكل لا يجد، في كثير من الأحيان، من يواسيه حتى من داخل إدارة مؤسسته، التي أصبحت غير قادرة، أو غير مستعدة، للقيام بواجبها التربوي، بحيث يتم توجيه اللوم المبطن إليه بالدارجة الأصيلة : "آ أستاذ، مكانش عليك تصدع راسك وتدخل في هاذ المشاكل، اللي ابغ يقرا يقرا واللي مبغاش، انت مالك". مفهوم دارجي أصيل لمفهومي المسؤولية والقيام بالواجب عندما في ثقافتها المعاصرة!، بل منظور دارجي متأصل لما يجب أن يكون عليه دور المؤسسة التعليمية حاليا ومستقبلا، ثم نتباكى على ما آلت إليه الأمور في كل الميادين، وعلى كل الأصعدة، ويتناسى المسؤولون عن قطاع الشبيبة والرياضة (أو يجهلون ويتجاهلون) أن ما يشكو منه هذا القطاع عموما، وكرة القدم خصوصا، من تدن على كل المستويات هو من نتاج هذا المنظور الغريب العجيب لتربية الناشئة بمؤسساتنا التعليمية. فكم من رجال التعليم المتحمسين للقيام بمهامهم بكل مسؤولية في حدود مؤهلاتهم المعرفية، رفعوا أيديهم مستسلمين لهذا الواقع الأليم، الذي أصبح كابوسا يقض مضاجعهم داخل القسم وفي فضاء المؤسسة التعليمية ومحيطها. هل بعد كل هذا سيبقى للمدرس أية قابلية للتفاعل بإيجابية مع العملية التعليمية؟ ألم تصبح هذه العملية نوعا من الأعمال الشاقة، بل من المهام القذرة، التي يقوم بها مكرها وعلى مضض؟
والأخطر من كل هذا، أن يقال للأستاذ المشتكي في بعض الأحيان:"آ أستاذ، مطلوب منك فقط أن تحرس التلاميذ بالقسم بدل أن يبقوا متسكعين في الشوارع". نعم، مفهوم آخر لثقافة الدارجة الأصيلة التي يراد لها أن تسود في بداية الألفية الثالثة، بداية عصر العولمة والتنافسية الطاحنة! المدرس مطالب بأن يقوم فقط بدور الحارس، لا أن يكون مربيا ومعلما ومكونا للأجيال. عليه أن يجتنب أية عقوبة زجرية في حق المشاغبين من التلاميذ، وما أكثرهم، وليس له الحق بإخراجهم من القسم. في المقابل، فلا حول ولا قوة للإدارة هي كذلك، بل غالبا ما يعمل الحراس العامون والمعيدون على كسب ود العناصر التي يخشونها والتي قد يتخندقون معها ضمنيا ضد المدرس الذي ترك وحيدا.
ثم كيف يسمح نوع غير قليل من الآباء لأنفسهم بانتهار وتهديد من وكلوهم أمر تربية وتعليم أبنائهم، حينما يستدعونهم، مثلا، ليشكوا إليهم عدم انضباط أبنائهم في القسم وما يثيرونه من فوضى؟ وإذا كان المدرس معروفا بعدم التساهل مع عدم الانضباط وما يخل بآداب القسم، قدر المستطاع، فحتى الإدارة تتخندق ضده، لأنه في نظرها لا يحسن التصرف، ويعمل على خلق المشاكل لها وهي أحوج ما تكون في غنى عنها. فهي بتظاهرها بالدفاع عن المدرس أمام من يستدعى من أولياء التلاميذ الخارجين عن السيطرة، تحمله ضمنيا المسؤولية "الله يهديه، حتى هو كيتعصب بزاف، مسكين، كيطلعليه السكر...". نعم، المجتمع الذي بلغ به الحد إلى القبول بثقافة الدارجة الأصيلة، والتفكير في تدريس رجال الغد بها، فلن يحسن قطعا التعامل مع السكريات والدهنيات فيتحول الأمر إلى ظاهرة مرضية في المجتمع "مرض السكر والكوليسترول". فمن لا يحسن التعامل حتى مع بطنه، فكيف له أن يربي رجال الغد على التفكير بعقولهم بدل بطونهم وفروجهم؟
فكما قلت، فإن الغريب في الأمر هو أننا عملنا على الإساءة إساءة كبيرة لمفهوم حقوق الإنسان، طفلا كان أم كهلا، رجلا أم امرأة. نعم، لقد أصلنا لثقافة خاصة بنا لمفهوم هذه الحقوق، نعمل من خلالها على ضمان حق من لا يعرف للآخر عليه حقا. التلميذ المشاغب المتهاون ليس للمدرس الحق أن يخرجه من القسم وليس له الحق أن يقوم بأي إجراء ضده، كأن يعمل على تأديبه (إن لم يخش على نفسه أن يعمل هو على تأديبه). لقد أعطي لهذا العنصر الحق في التعدي على حقوق الآخرين في التعلم والسكينة، وعلى حق المدرس في الإبقاء على حد معقول من ظروف العمل في القسم للقيام بواجبه التربوي. فيما يخص الكبار، فقد أصبح حق المعتدي على حقوق الآخرين مضمونا، وهو ما أدى إلى تفاقم ظاهرة الاعتداء على المواطنين في واضحة النهار في الشوارع، وعلى قارعة الطرق. كيف يمكن لرجل الأمن الذي يمثل هبة الدولة أن يستمر في القيام بمهامه في بسط الأمن في المجتمع وهو يرى أن من اعتقله بالأمس، وهو يبث الرعب بين الناس معتديا على حقوقهم، قد أطلق القضاء سراحه بناء على مفهومنا الخاص بنا لحقوق الإنسان؟ قد يطغى رجل الأمن ويتجاوز حدوده، كباقي المغاربة (وهنا يجب تدخل مفهوم حقوق الإنسان السليم لتصحيح المسار بمتابعته كمواطن أخل بمهامه)، لكن أن يصل الأمر إلى سلب رجل الأمن هيبته، كما سلبها المدرس، فيصبح من المتفرجين على ما يحدث، فهذا سوف يؤسس لما لا تحمد عقباه من تشجيع ضمني على الانفلات الأمني بكل أوجهه، وهذا ما لا يريده لهذا البلد الأمين إلا من لا يعرف له عليه حقا. إن زرع الريح لن ينتج إلا العاصفة حتما، والعاقل من استبق الأحداث وعمل على قطع دابر الفتن والاختلالات بكل صورها. هل إلى هذا الحد عجزنا على تصور عاقبة الأمور على أمننا التعليمي والاجتماعي والوطني، ونحن نعمل على تهيئة أجيال لا تقف عند أية ضوابط ولا تعرف أي معنى للامتثال لها، ولم تتعلم من تجارب الحياة إلا الغش والنجاح المغشوش؟ إن زرع بذور أية ظاهرة، أو فكرة، غير معروفة العواقب في وسط المجتمع لن يستطيع أي أحد، أو أية مؤسسة كيفما كانت، التنبؤ بالمسار الذي ستأخذه وبما ستؤول إليه. وعليه، فالعاقل من يبذر ما يحسن الاعتناء به، وما يسهل عليه حصاده والتعامل من منتوجه.
والمثير في الأمر، وما يدعو للحسرة، ألا تجعل النقابات التعليمية من ظروف عمل المدرسين بالمؤسسات التعليمية إحدى محاور نضالها الأساسية لتعمل على إعادة قدر من الاحترام لرجل التعليم، وقدر من الهيبة لهذه المؤسسات، التي تمثل محضن إنشاء المواطن المحب لوطنه، المدافع على ميراث آبائه ومقدساتهم، والباني لمستقبل أبنائه. لقد تحولت "كاد المعلم أن يكون رسولا"، و"من علمك حرفا صرت له عبدا" إلى "كعلم" وما شابهها من النكت التي تحط من قدر رجل التعليم حتى الحضيض. كيف لأمة أن يستقيم حالها، وتواصل مسيرها، وتضمن مستقبل أبنائها وأمنها التعليمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والوطني، وهي تهين معلميها، من تأمل فيهم تربية رجال غدها؟ كيف لأمة يسب نشؤها معلميهم أن تقوم لها قائمة، إن هي استمرت في سباتها وغيبوبتها، ولم تبادر إلى تدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان، إن لم يكن الأمر في خبر كان؟ كيف لطفل (مادام طفلا حتى الثامنة عشرة من العمر) أن ينضبط لتعليمات مدربه، في كرة القدم مثلا، ويتحلى بالتنافسية والندية ورفع التحديات والاستماتة في الدفاع عن قميص الفريق، وعن العلم الوطني إن كان من أعضاء الفريق الوطني؟ ولكي نقف على خطورة ما آلت إليه الأمور، أبيح لنفسي كتابة بعض ما يؤشر على أننا بلغنا حدا مخيفا من تردي الأمور ومن انحطاط منظومتنا التعليمية. كان فيما كان:
"قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا"
كان فيما كان، فيما مضى من الزمان، في وقت كان فيه المعلم معلما، والتلميذ تلميذا، والمتعلم متعلما والأمي أميا، والمسؤول مسؤولا وأولياء الأمور أولياء. وحينما انقلبت المفاهيم رأسا على عقب، طمست المعالم التربوية والأخلاقية وانحطت القيم، وضيعت المهام وغيبت المسؤوليات، وتفشى الجهل، استبدل هذا الشعار بالدعاء التالي:
اللهم عذب المدرسين والمدرسات الأحياء منهم والأموات
اللهم عذب مدرس الجبـر واجعل له في كل عظم كسر
اللهم عذب مدرس التاريـخ واقذفه بعيدا إلى المريخ
اللهم عذب مدرس النصوص لأنه من أكبر اللصوص
اللهم عذب مدرس الفيزيـــاء واحفظه في علب كالمومياء
اللهم ....
من طلب العلم نام الليالي ورمى الكتاب وقال وانا مالي

إنها "أبيات" من قطعة "شعرية دارجية" مطولة، تغني عن كل تعليق، غير القول بأننا بشأن تكوين جيل مرعب، انقلبت عنده المفاهيم رأسا على عقب واسودت نظرته إلى المجتمع فأصبح كبرميل البارود، قابلا للاشتعال والانفجار في كل حين.
كيف للمجتمع بكل مكوناته، والمسؤولين عن المنظومة التعليمية خصوصا، أن يهنأ لهم بال وهم يرون أن المعول عليهم قد اعوج عودهم وتسوس؟ كيف يستقيم الظل والغصن أعوج؟ كثير من رجال التعليم ما قبل الجامعي مصابون بالإحباط والاكتئاب ويغلب عليهم الانفعال والعصبية، نظرا لما يعانونه من ضغوطات نفسية هائلة على كل المستويات. كيف يطلب منهم إذا تربية النشٳ تربية سليمة وقد عمل المجتمع بكل مكوناته، من حيث يدري أو لا يدري، على إعاقتهم معنويا وحسيا، مما أدى بهم إلى ردود أفعال سلبية، بدرجات متفاوتة، زادت أزمات التربية والتعليم والتكوين تعميقا وتفاقما. لقد دخلت العلاقة بين المدرس والتلميذ دائرة ردود الأفعال السلبية والاتهامات المتبادلة لتنهار صناعة اللبنات الأساسية لبناء المجتمع وتشييد صرح الوطن. نعم، كثير من رجال التعليم وجدوا من المسوغات ما يبيح لهم ويخول لهم القيام بتصرفات "قصمت ظهر المنظومة التعليمية"، تصرفات الناقم، المنتقم، المولدة للكراهية.
من هنا نقول بأن على الدولة أن تعمل، قبل كل شيء، على إعادة الهيبة التربوية لإدارة المؤسسات التعليمية، والهيبة الأخلاقية والأمنية عبر إعادة تأهيلها وربطها بمصلحة أمنية خاصة يتم خلقها لغرض ضبط الأمن بهذه المؤسسات وفي محيطها حتى تنعم بالطمأنينة والسكينة المفروض وجودها. لماذا لا يتم خلق جهاز أمني مثيل للحرس الجامعي للتصدي لهذا الفلتان الأمني والتربوي الخطير؟ إن رد الاعتبار المعنوي لتعليمنا، مؤسساته ورجالاته هو الكفيل بتجنيب بلدنا الحبيب أخطار الانزلاق إلى ما لا يحمد عقباه كما سنرى. كيف لمؤسسات تربوية أصبحت أوكارا لتداول كل أصناف المخدرات والترويج لها، داخليا وفي محيطها المباشر، مع ما يصاحب ذلك من مظاهر الانحلال الخلقي المتعددة الأوجه أن تعمل على تكوين نشء قادر على الانخراط في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتفعيلها؟ فإن نحن خسرنا تكوين العنصر البشري التكوين السليم والايجابي، فأية تنمية بشرية سننشد من المبادرة الوطنية التي يسهر عاهل البلاد على تنفيذها والسير بها قدما في تنقل مستمر عبر أرجاء البلد الحبيب؟ لا أظن أن عليه، كذلك، أن يتنقل من مؤسسة تعليمية إلى أخرى للوقوف على ما تعرفه من مناخ تربوي رديء وانحطاط خلقي مسيء ليعمل على إعادة الاعتبار لها ولمهامها. إن التفرج على ما يحدث، مع الإحجام عن تقييم الأمور تقييما علميا حتى يتسنى العمل على وضع خريطة مدرسية قادرة على تقويم ما اعوج وتشوه، لا يتماشى مع مقتضيات ومتطلبات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي يراهن عليها المغرب في زمن كل التحديات. كان من المفروض، بعد أزيد من نصف قرن على الاستقلال، أن يكون عندنا العنصر البشري الذي يتفاعل بكل تلقائية وبكفاءة عالية مع متطلبات هذه المبادرة التي يتوخى منها تنمية البلاد وتحسين مستوى عيش المغربي.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    https://www.profpress.net/