حول موضوع الغُمُوضُ في الشِّعْر العربي الحديث

said prof يناير 13, 2020 مايو 28, 2023
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

حول موضوع الغُمُوضُ في الشِّعْر العربي الحديث

الغُمُوضُ في الشِّعْر العربي الحديث

د. محمد علي النجار
قضية الغموض في الشعر العربي ليست وليدة العصر الحاضر ، فقد لازم الغموضُ الشعرَ منذ زمن طويل ، فوجدناه في شعر المبدعين بحيث يمكننا القول : إن الغموض صفة تلازم الإبداع الفني الأصيل ، لذا رأينا الغموض في الشعر العربي القديم يبرز بصورة جلية مع أبي تمام والمتنبي ، وهذا يقودنا إلى عبارة أبي تمام المشهورة عندما سُئل لماذا لا تقول ما يفهم ؟ فأجاب : لماذا لا تفهمون ما يقال ؟ إلا أن هذا القول يجب ألا يفتح الباب على مصراعيه للشعراء الجدد ليتخذوه حجة على غموضهم غير المبرر غالبا .
فالغموض عند أبي تمام والمتنبي ، كان جزئيًا ومحدودًا ، ولم يرد إلا في أبيات محددة ، وأيًا كان الأمر ، فإن قضية الغموض في الشعر الحديث قد أخذت أبعادا تدفعنا للبحث فيها ، وتعرف أسبابها ، ولعل هذا الغموض ناتج عن أمور أو يكمن في عدة جوانب من أهمها :

أولاً : البعد الدلالي :

ونعني به : اللفظة ، والاستعارة ، وإهمال حروف الربط (كحروف العطف) والمقاطع الشعرية .وتأتي اللفظة في سياقها لتدل على المعنى الذي وضعت له ، أما الشعر فإنه يحطم هذا النمط الدلالي المتعارف عليه لأنه يعتمد على النظم . وتلعب الاستعارة في الشعر دورًا رئيسًا في بروز الغموض في الشعر، وإذا كانت الاستعارة ليست بجديدة على الشعر قديمه وحديثه ، إلا أنها ازدادت في الشعر المعاصر ، وبخاصة عند الشعراء الرومانسيين . وعندما نذكر الاستعارة في هذا المجال ، فذلك لأن الاستعارة تعني انتقال المعنى من المعنى الأول الأصلي إلى معنى ثان ، مما يعني اختلاف دلالة الكلمة بين الأصل والمعنى الجديد ، ناهيك عن ضياع المدلول ككل إذا انعدم ما بينهما من علاقة ، وبخاصة في الصورة الشعرية لتبدو هذه الصورة غامضة ، وهذا كثير في الشعر المعاصر الذي يبتعد بالكلمة عن مدلولها من خلال الصورة ؛ فالكلمة المفردة يتحدد معناها حسب السياق من خلال موقعها في الجملة ، ولما كانت الاستعارة سببًا في تغيير وتبديل السياق والمعنى ، فإن ذلك يعني مزيدًا من الغموض ، فالقصيدة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية الصغيرة المترابطة التي تشكل في النهاية القصيدة ذاتها ، لذا نجدهم يقولون : إن القصيدة المعاصرة استعارة كبرى ، أو واسعة يكبر معها الغموض ويتسع .
إن الشاعر لا يطلب من القارئ فهما فوريا للمعنى في شعره فهو يريد خلق نوع من الإيحاء لدى القارئ لينقله إلى تجربته الشعرية ويشاركه فيها ووسيلته في ذلك إعادة صياغة الأشياء على غير ما هي عليه في الواقع وذلك من خلال اللغة التي يحاول تحطيمها ليصنع منها لغة جديدة تخدمه في نقل عالمه الداخلي الخاص إلى الآخرين ..
ومن أسباب الغموض عدم مراعاة نظم الربط بين أجزاء القصيدة بإهمال حروف العطف وغيرها من وسائل الربط في اللغة وهذا بالطبع خروج على قوانين اللغة المتعارف عليها مما يوقع القارئ في حيرة هي الغموض عينه ، ولعل أحدا يقول إن الشاعر يستعيض عن هذه الحروف والوسائل بطرق ربط أخرى وذلك ليحقق الانسيابية في النص !! ومن هذه الطرق ، التكرار والفاصلة والنقطة أو النقط المتوالية أو وضع كلمات في غير مكانها لترتبط مع بقية الجملة كأن يضع الفعل في آخر السطر الشعري ، والفاعل في بداية السطر الشعري اللاحق له ، أو يضع المضاف في السطر الشعري ، والمضاف إليه في بداية السطر الذي يليه .

ثانياً : البعد النحوي :

ونعني به التراكيب ، كالضمائر المبهمة ، وتسكين حرف الروي ، والتقديم والتأخير في الجملة . فمن أسباب الغموض في الشعر الخروج عن القواعد النحوية مثل :
استخدام الضمائر المبهمة .
إسكان حرف الروي .
التقديم والتأخير في الجملة .
فالضمير في الجملة العربية لا بد أن يكون له مرجع ليُفهَمَ معناه ، فإذا جاء بلا مرجع التبس الأمر على السامع أو القارئ وتاه المعنى .
أما تسكين الروي وهو قليل لا يتجاوز 3% من الشعر العربي القديم ، فإنه يساعد بلا شك في بث الغموض في أرجاء النص الشعري ، وهو كثير جدا في الشعر الحديث ، فمن المعلوم أن اللغة العربية لغة معربة ، وأن للإعراب أثرًا كبيرًا في المعنى ، بل لا يكاد يفهم المعنى بمعزل عن الإعراب ، لذا فإن التسكين مطية اللبس أو الغموض الذي يتسبب فيه الشاعر المعاصر عندما يحرص على أن يجاري في شعره اللغة أو اللهجة العامية التي تميل إلى التسكين ..
أما التقديم والتأخير فهو كثير في الشعر قديمه وحديثه إلا أنه في الشعر الجديد أكثر بروزا ، بل أكثر لبسا وغموضا لامتداد المعنى في أكثر من سطر شعري ، وقد يكون التقديم والتأخير مخالفًا قواعد بناء الجملة المتعارف عليه في النحو ، حيث يبرز الغموض ، ويزداد كلما ازداد اعتماد الشاعر على تقديم ما واجبه التأخير ، أو تأخير ما واجبه التقديم ، مع إهمال القرينة التي تدل عليه ، فقد تلجئ الموسيقا أو القافية ـ إن وجدت ـ الشاعرَ إلى التقديم أو التأخير .

ثالثًا : البعد الإيقاعي :

أي الوزن : كتداخل الأسطر الشعرية وترابطها موسيقيًا ، بخلاف البيت الشعري المستقل في القصيدة العربية التقليدية . فالإيقاع قد يكون سببا في غموض الشعر المعاصر على النقيض من البيت الشعري الذي قد يفتقد الصلة بالبيت الذي سبقه أو يليه ، فهو قائم بذاته في المعنى والمبنى والموسيقى ، فهو ـ غالبًا ـ يستقل عن الأبيات الأخرى ، ولهذا يكتمل فيه المعنى باكتمال مبناه وتفعيلاته العروضية الموسيقية ، أي له بداية وله نهاية .
أما السطر الشعري في القصيدة الجديدة أو الحداثية ، فقد لا يعرف القارئ له بداية ولا نهاية ، فتتداخل الأسطر الشعرية ، أو قل : تتداخل المعاني ، ولا يفهم القارئ أين ينتهي ، ومن أين يبدأ .

رابعًا : البعد المعرفي :

ويقصد به المضمون : كثقافة الشاعر الموسوعية ، وحشد الرموز ، وحركة النقد المواكبة للشعر والموجهة له .
كذلك فإن للبعد المعرفي دورا في الغموض في الشعر الجديد ، فثقافة الشاعر تلعب دورًا رئيسًا في غموض شعره بسبب استخدامه للرموز والأساطير العربية والإسلامية التي قد لا يلم بها القارئ ، ولعل الطامة الكبرى تكمن في استجلاب الشاعر لما عند الأمم الأخرى من الرموز ، والأساطير التي يجهلها كثيرون حتى من المثقفين العرب ، فيكون الرمز والأسطورة سببًا في الغموض وبصورة خاصة عندما يحرص الشاعر على حشدها حشدا بحيث يصبح الرمز أو الأسطورة الغاية وليس الوسيلة .
وبعد .. فإن الشعر وسيلة للإثارة والإمتاع ، فإذا افتقد الوضوح ، ولم يستطع الإنسان المثقف استيعابه وفهمه ، وبالتالي عجز الشعر عن إثارته وإمتاعه فإن مثل هذا الشعر أحق من غيره في الانضواء تحت الفن السريالي الذي هو أقرب إلى الهوس الأدبي منه إلى الشعر والعمل الفني .

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    http://www.profpress.net/