إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: الأسبوع الأول في حياة متقاعد‎

الإدارة ديسمبر 02, 2016 ديسمبر 24, 2016
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: الأسبوع الأول في حياة متقاعد‎

المصطفى سالمي

المصطفى سالمي

وأخيرا حصل (رحال) على تقاعده، لقد أكدوا له أنه بداية الحياة الحقيقية، مرحى يا حياة الهوايات وتدارك الفرص الضائعة! صعد أدراج السلالم للصعود لسطح بيته، وجد كرسيا خشبيا قديما بجوار مزهريات الورد والنباتات، لابد أن يؤنبهم على ترك الكرسي تحت الشمس الحارقة تلتهمه فيصبح هشيما.. إن
هذه النباتات أصبحت ذابلة، تحتاج مثله للتعهد والرعاية، تربتها أصبحت صلبة قاسية، رشها (رحال) بقليل من الماء، ثم بدأ بإفراغ المحتويات التي التصقت جذورها بقاع القوالب البلاستيكية والطينية.. عليه إذن أن يخصص يومه الأول لاستصلاح هذه المزهريات وإعادة الحياة إليها، جلس (رحال) يدندن وهو يغرس فسائل وبذورا، ثم شرع يجمع النباتات الطفيلية والجذور اليابسة، قبل أن ينظف المكان ويسقي الأغراس في حلتها الجديدة.. كان أثناء ذلك يتذكر مشاهد تكريمه في حفل الوداع. لا، لن يكون ذلك يوم وداع لحياته، بل سيكون وداعا للهموم والشكوى والأنين. صعدت أم الأولاد إلى السطح لنشر بعض الأفرشة، رأته وهو يسقي بخرطوم الماء النباتات التي كان في السابق يكتفي بإلقاء نظرة عابرة عليها إذا صعد هنا في مرات نادرة جدا، لكنها لم تصدر أي تعليق على صنيعه..            
ها هو يوم ثانٍ في أسبوع التقاعد، ربّاه! إن الجو منعش يغري بالقيام بنشاط ما. قام (رحال) وصلى، ثم فتح ألبوم صوره القديمة، إنها صور من أزمنة متعددة: صور لرحلات مدرسية وأخرى مع تلاميذه القدامى بمدن مختلفة. تُرى أين انتهى مسار الحياة بكل واحد منهم؟ سيجرب لعبة تذكر الأسماء إن أمكن، يكفيه تذكر اسم واحد في كل صورة من هذه الصور ...!                                                         
هو اليوم الثالث إذن من أيام أسبوعه الجديد، لقد مضى وقت طويل ولم يشاهد برامج التلفاز. تُرى، ما القنوات الجديدة وتلك التي لم يعد لها وجود؟ التقط جهاز التحكم، وبدأ بتصفح صفحات أسماء الفضائيات، كانت أم أبنائه تعد وجبة الغداء، ورائحة الزيت والتوابل تقتحم عليه الغرفة،  فشعر بأن البيت لا يناسب تواجده في هذا الوقت، وخاصة وأن مضمون هذه القنوات التلفزيونية ليس فيه إلا ثرثرة أو صور فارغة المحتوى. لَمْلَمَ نفسه ثم خرج نحو فضاء المدينة لعله يحظى بمتعة أرقى في الخارج..                      
استيقظ (رحال) متأخرا مقارنة بالأيام السابقة، لقد سهر البارحة لوقت طويل مستغرقا في قراءة رواية أرهقت عينيه المتعبتين، ولكنه مُصرّ اليوم على إتمامها، إنها قصة: (العجوز والبحر)، لقد أعجب بقصة بطلها، هل تراه تعاطف مع تلك الشخصية لأنه هو نفسه يوشك أن يكون عجوزا، أم تراه فعلا كذلك؟  من يجرؤ أن يقول كلاما مثل هذا؟!  ولكن أين أمّ الأولاد؟ أحدهم يقرع الباب ولا أحد يرد عليه، تعالى صوته مشتكيا من الفوضى السائدة هنا، مما يشوش عليه متعة القراءة، أطلت الزوجة التي كانت ترتب البيت، وأبدت تبرما محتشما من ردود فعل زوجها المنزعجة كثيرا في الآونة الأخيرة، وهو من كان نادر الشكوى قبل أن يصبح كتلة من التذمر والأسئلة التي لا تنتهي..                       
حل يوم الجمعة، حمل (رحال) سجادته وتوجه نحو المسجد كالمعتاد في مثل هذا اليوم، صلى وعاد ليجد وجبة الكسكس في انتظاره، تجمع أبناؤه وبناته ووجوه أخرى كان وكأنه يبصرها لأول مرّة، تردد أن يسأل عنها مخافة أن يتّهم بأنه كثير الأسئلة، ضعيف الذاكرة، سريع التذمر والشكوى، ولكنه متأكد أنه سبق له رؤية تلك الوجوه، لكن أين ومتى؟ هو غير متأكد تماما..                                      
إنه يوم السبت الذي سيخرج فيه (رحال) إلى الحديقة العمومية، اشترى جريدة أسبوعية، وحمل قنينة ماء في كيس بلاستيكي، ثم توجه نحو أكبر حديقة في المدينة، استلقى على العشب الأخضر، وبدأ يقرأ آخر المستجدات في عوالم السياسة والفن والرياضة، إن هي إلا أخبار تافهة مكررة، تواردت إلى مسامعه زقزقة الطيور كأنما يسمعها لأول مرة، هل كانت حواسه معطلة؟ لقد كان فقط يسمع أصداء تلاميذه في الفصل التعليمي، ويستنشق رائحة الطبشورة، فجأة تعالت ضوضاء حواليه، التفت فلم يبصر سوى شبان وشابات يقهقهون ويعبثون، متبادلين كلمات خادشة لحياء أمثاله، استغفر ربه ولعن ما آل إليه أوضاع الأجيال الصاعدة، كاد أن يعلق على كلامهم وسلوكهم، لولا أن خاف أن يتهم بالفضول أو ينعت بأنه عجوز هرم لا يليق به التواجد في مثل هذه الأمكنة، وأن مكانه هو دار العجزة..
يوم الأحد  هو يوم الهوايات، اشترى (رحال) بضعة أزواج من الحمام، وقرر أن يقص اجنحتها، ويضعها في صناديق وقوالب من طين، لعلها تؤنس وحدته حين تكبر وتألف المكان بعد أن تطير وتعود لتفرخ فراخا، لكن الزوجة علقت على صنيعه وهي تنشر الأفرشة تحت أشعة الشمس بأن الحمام يفسد بمخلفاته الغسيل ويلوثه..          
أحس (رحال) وهو على مشارف إنهاء أسبوعه الأول من حياة التقاعد أنه سيتعب كثيرا في جوار هؤلاء المفلسين في عوالم الابتكار والهواية، وأن مكانه هو البادية حيث الانطلاق والحرية، سيرحل إلى هناك ليجرب حياة حقيقية بعيدا عن الأعين التي ترصد كل حركة وفعل..    

اقرأ جميع إبداعات الكاتب المصطفى سالمي

              
  

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    https://www.profpress.net/